هذه الطاقة التي تعادل بالنسبة لسطح الأرض ماء ويابسة (59) ك. كالوري وسطياً تكفي على مدار السنة تبخير ما مقداره (577) ألف كم3 من المياه السائلة من على سطح الأرض، وحسب قوانين التوازن الرطوبي آنفة الذكر، ستتحول المياه المتبخرة كاملاً إلى مياه سائلة ثانية (هطول) أي بمقدار (577) ألف كم3، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أخبرنا بذلك قبل (1400) سنة ونيف بقوله: (ما من عام أمطر من عام ولكن يصرفه حيث يشاء..) وذلك بعد أن أوحي له بذلك رب العزة الذي نزل من السماء بقدر فأسكنه في الأرض.
سؤال آخر يدغدغ عقولنا ثانية وهو:
لماذا لا يصل جو الأرض وسطياً سوى (1.36.10)24 حريرة/سم2/سنة، مع أن طاقة الشمس الحرارية عظيمة هائلة كما أبنت سابقاً؟
إني أرى أن الإجابة تكمن في الآية الكريمة القائلة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (لقمان: 29).
لنتوقف قليلاً عند كلمة (سخر) لنرى معانيها وأبعاد هذه المعاني.
لقد أورد علماء التفسير في تفاسيرهم(7) معاني محددة للكلمة تتمثل في: طوع، ذلل، أخضع وكلها ترجمات صحيحة للكلمة وفي معاجم اللغة تصادف معنى أخوا إضافة لما سبق وهو العمل بلا أجر وبدون مقابل، وكلنا يعرف مدلول كلمة السخرة.
في الواقع نستشف كل المعاني السابقة في كلمة سخر، فالله ـ جل جلاله ـ طوع وذلل وأخضع الشمس لخدمة الأرض ومن عليها بلا مقابل ولا أجر يدفعه أهل الأرض لمالك الأرض والسماء.
ولنرى الآن الكيفية التي تمت فيها عملية التسخير هذه:
1 ـ لقد وضع الله الأرض في بعد معياري مثالي (وكذلك الشمس) بالنسبة للشمس، والذي يعادل وسطياً (150 مليون كم)، الأمر الذي نتج عنه:
أ ـ توفير الإضاءة والطاقة المعيارية المناسبة للأرض، ولقد أشرت إلى ذلك آنفاً، وأضيف بياناً لما ذكرته، أن كوكب عطار لا يبعد عن الشمس سوى (58) مل كم، وعليه تصله من الطاقة الحرارية الشمسية سبعة أضعاف ما يصل إلى الأرض تقريباً، لذا كثيراً ما تتجاوز حرارته نهاراً (400) درجة(8)، ونفس الشيء بالنسبة لكوكب الزهرة الذي يبعد عن الشمس (108) مل. كم الذي تبعا لذلك تصله ضعف الطاقة الحرارية الشمسية الذاهبة إلى الأرض، ونقيضاً لما ذكرته نجد أن كوكب المريخ وهو الأشبه بالأرض ولكنه الأكثر بعداً عن الشمس (220 مل.كم) نصيبه من الطاقة الشمسية لا يتعدى (57%) من الطاقة الشمسية البالغة كوكب الأرض، لذا فإن درجات الحرارة في سطح المريخ، أدنى من الصفر دائماً.
ب ـ لقد سمح البعد المعياري للشمس ببقاء الأرض في مدارها الحالي وفي الحفاظ على هويتها الكوكبية المميزة (ماء ـ كائنات حية ـ ظروف طبيعية مثالية). فلو كانت أقرب لأضحت في شكلها وخصائصها مضارعة لكوكبي عطارد والزهرة، ولو بعدت عن الشمس أكثر لأصبحت مشابهة لكوكب المريخ، وفي جميع الأحوال ستتبدل الأرض إلى غير الأرض.
ج ـ لقد ساعد البعد المعياري هذا على بقاء القمر تابعاً للأرض يدور في فلكها وهو كما نعلم قنديل الأرض وتقويمها الزمني: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس: 5).
2 ـ لقد أدى واقع البعد المعياري لكل من كتلتي الشمس والقمر إلى تحقيق أمور غاية في الأهمية بالنسبة للأرض:
1 ـ ظهور الميل المحوري للأرض، فكما نعلم محور دورانها حول نفسها ليس عمودياً بالنسبة لمساره في مداره (Orbit) بل نواه يميل بمقدار (23.27) درجة ولهذا الميل أثر عظيم على مظهر الأرض الخارجي وخصوصيتها الطبيعية وعلى كمية الأشعة الشمسية الواصلة إلى سطحها وجوها:
1 ـ لقد حددت درجة ميل المحور كمية الأشعة والطاقة الشمسية المقدار الأمثل من الطاقة المناسبة والضرورية لسطح الأرض ولمن يحيا فوقها، فالطاقة التي تصل إلى سقف الغلاف الجوي أكثر مما تحتاجه الأرض فعلياً وبخاصة في العروض الجغرافية العليا (المتوسطة وشبه القطبية والقطبية).
2 ـ سمح الميل المحوري المذكور بظهور الفصول الأربعة بوضوح ومعروف جغرافيا أهمية الفصول إشعاعياً حرارة ورطوبة.
3 ـ توزعت الحرارة نطاقياً على سطح الأرض(9)، لذا ظهرت النطاقات الحرارية ومن ثم النطاقات الطبيعية التي تتدرج في حرارتها من النطاق الاستوائي حيث سقوط الأشعة عمودي على سطح الأرض إلى النطاق القطبي البارد دائماً لأن خطوط الأشعة الشمسية تمس الأرض مسا فلا تحمل معها إلا اليسير جداً من الطاقة إلى هذا النطاق، وبين النطاقين المذكورين نرى النطاق المداري ثم شبه المداري والمتوسط، وبالواقع تكمل النطاقات مجتمعة بعضها البعض لترسم لوحة المظاهر الطبيعية الحية والجامدة فوق الأرض.
4 ـ انقسمت الأرض إلى نصفين متضادين حرارياً وإشعاعياً: نصف شمالي (شمال خط الاستواء) وآخر جنوبي. وشتاء النصف الشمالي يقابله صيف النصف الجنوبي وبذلك يتحقق توازن حراري وإشعاعي على سطح الأرض ولن يحدث شذوذ حراري ارتفاعاً وانخفاضاً يخل بالواقع الحراري الأرضي السطحي.
5 ـ عمل الميل المحوري للأرض على تباين طول الليل والنهار ما بين خط الاستواء والقطبين فهما متساويان في النطاق الاستوائي دائماً ولكنهما مختلفان طولاً كلما اقتربنا من الدائرة القطبية، إذ يختفي الليل في الانقلاب الحراري الصيفي في القطب الشمالي بينما لا نري النهار في القطب الجنوبي. ويحدث العكس بين القطبين في الانقلاب الحراري الشتوي، وبالطبع سيؤثر هذا الواقع على قيم الإشعاع والحرارة ما بين الاستواء والقطبين، وسبحان من قال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (إبراهيم: 33).
ب ـ أدى البعد المعياري لكتلتي الشمس والقمر عن الأرض إلى ظهور رد فعل أرضية مناسبة ومتوازنة مع قوة جذب الجرمين المذكورين وذلك على شكل قوة نابذة متعاكسة في اتجاهها مع القوة الجاذبة الشمسية القمرية، وردة الفعل هذه الناجمة عن حركة الأرض الدورانية قد حققت ثبات سير الأرض في مدارها المعروف حول الشمس وحددت سرعة حركتها والمقدرة وسطياً بـ (29.8)كم/ثانية، مما أدى إلى انتظام طول السنة (365 يوماً ونيف) واليوم (24) ساعة، وإذا ما عدنا إلى كواكب عطارد والزهرة والمريخ نجد أن طول اليوم عطارد (176) يوماً أرضياً، بينما السنة لا تتجاوز (88) يوماً وبالنسبة للمريخ يكاد يكون طول السنة ضعف طولها في الأرض أي (678) يوماً... وهكذا بقية كواكب المجموعة الشمسية، وهذا التباين الكبير في طول كل من السنة واليوم في الكواكب الأخرى ومعياريته بالنسبة للأرض أحد الأسباب الأساسية في تباين واختلاف النظم الحرارية ما بين الكواكب هذه والأرض.
في الختام لا يسعني إلا أن أشير إلى أن الله جلت قدرته لم يكتف بتسخير الشمس والقمر بل إنه سخر الأرض ذاتها لساكنيها الأحياء لتكون لهم مستقراً وقراراً، وذلك بأن جعل تركيبها وتطبقها وطاقتها وكتلتها وحجمها معيارياً مما وفر للأرض:
1 ـ غلافاً جوياً مثالياً في تركيبه (آزوتي أكسجيني) وفي وزنه وسماكته مما أعطاه الفرصة لعكس وامتصاص قرابة (52%) من مجموع الأشعة الشمسية القادمة إلى الأرض، فحافظ بذلك على الظروف الحرارية والرطوبية الحالية.
ب ـ درعين واقيين يحميان أحياء الأرض من المواد والإشعاعات الشمسية والكونية القاتلة والدرعان هما:
1 ـ الساحة المغناطيسية وتمثل الخط الدفاعي الأول والبعيد عن الأرض.
2 ـ طبقة الأوزون القريبة من سطح الأرض (25 ـ 40 كم وسطياً).
ولا يسعني إلا أن أتم هذه الأسطر بقوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت: 61)، وقوله كذلك: (وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (الحجر: 21).