أما الطرق الباقية فهي مرسلة، فيكون ذكرها من باب الشواهد مع أن فيه إشكالاً.
كيف يُدخل أحاديث مرسلة مع أحاديث مسندة من غير تمييز؟
لأن زيادة المرسل لا يُستفاد منها، وموافقة المرسل يُستغنى عنها في السند.
أنه قال رجل: قال الشارح من المنافقين، والصحيح أنه لم يكن منافقًا إلا بالقول.
في غزوة تبوك: هذا زمن القصة، وهي في السنة التاسعة.
ما رأينا: من الرؤية.
مثل قرائنا: فيه ملاحظة أنه سخر بالقراء لا بقارئ واحد. وهذا هو الدليل على أن من سخر بالعلماء فإنه يكفر كفر ردة لأن الكمية لها أثر.
أرغب بطونًا: أي أكثر أكلاً.
أكذب ألسنا: أي يخبرون بخلاف الواقع.
أجبن عند للقاء: أي فيهم خوف وهلع يمنع من الإقدام.
فهو سخر بثلاثة أمور وليس المقصود العدد، فلو لم يذكر إلا أمرًا واحدًا لكفى.
وأيضًا فهذه الأمور الثلاثة كذب وليست حقيقة، فجمع بين السخرية والكذب.
هل القائل واحد؟ في الحديث أنه رجل واحد، وفي القرآن أنهم مجموعة. والجمع أن يقال: إن القائل واحد والباقون موافقون، والراضي كالفاعل قال تعالى: ]فعقروها[ والعاقر واحد. وقال تعالى: ]وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[ [النساء: 14] أي إذا قعدتم مع الرضى.
عوف بن مالك: هذا صحابي، وقالها من باب الحمية والغيرة.
كذبت: أي أخبرت بخلاف الواقع، وهذا فيه المبادرة بتكذيب من سخر أو استهزأ.
لكنك منافق: لكن: للاستدراك. لأنه لا يطلق هذه الألفاظ على أصحاب رسول الله إلا منافق.
وفيه جواز وصف الرجل لمن يظهر منه النفاق به، وذلك من باب الغيرة لا من با بالهوى.
وفيه جواز الحكم على المعين بالنفاق وبالكفر إذا توفرت الأسباب وانتفت الموانع.
لأخبرن: فيه جواز نقل الكلام إلى الإمام والعالم وكل من له أثر في تغيير المنكر، ولا يعتبر من باب النميمة، إذا ظهر من شخص النفاق أو المعصية أو شيئًا مخالفًا للشرع، فينقل خبره إلى الحاكم بالشيء الذي قاله، أو فعله.
القرآن قد سبقه: فيه جواز مثل هذا التعبير، ومثله: حَكَمَ القرآن، وتحدث القرآن.
إنما: أداة حصر.
كنا نخوض ونلعب: أثبت السخرية، وإنما تعذر بأنهم أرادوا قطع الطريق.
وعليه فمن أراد قصد السخرية بمن قال، فإنه يكون كافرًا سواءً كان جادًا أم هازلاً.
ثم يصف ابن عمر حال هذا الرجل وهو متعلق بناقة الرسول والرسول r يتلوا الآية.
مناسبة هذا الحديث: أن من سخر بالصحابة أو بالعلماء على وجه العموم، أو كان ديدنه السخرية بكل عالم، فإنه يكفر كفر ردة.
مسألة: ما حكم قول: "مصيحف" و"مسيجيد"؟
فيه تفصيل:
إن كان يقصد بيان الحجم فهذا يجوز، لكن الأولى ترك هذا التعبير؛ لأنه يوحي بالسخرية.
وإن قصد السخرية فيكفر.
مسألة: حكم السخرية بالعلماء وطلبة العلم وهل هو من السخرية بالدين؟
فيه تفصيل:
1- إن سخر بهم لدينهم فهذا كفر ]إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ[ ولقوله تعالى: ]زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا[.
2- إن سخر بهم لعداوة بينهم وبين بعضهم فهذا محرم قال تعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ[.
3- إن كان ديدنه السخرية بكل عالم فهذا كفر ردة.
دليله «ما رأينا مثل قرائنا» وقوله تعالى ]زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا[.
]وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي[ [فصلت: 50] الآية.
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي.
وقوله: ]قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي[ [القصص: 78] قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله r يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطى لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر – شك إسحاق – فأعطي ناقة عُشَراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعرًا حسنًا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدًا؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن, والمال، بعيرًا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى
ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفر، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك» أخرجاه.
قال الشارح:
هذا الباب شبيه جدًا بباب ]يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا[ [النحل: 83]، وبباب ]فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا[ [البقرة: 22].
لأن هذا الباب يتحدث عن نسبة النعم لغير الله، ولذا فإن مباحث الباب تمامًا مثل المباحث السابقة، وسوف نتعرض لشرح بعض عبارات الباب.
شرح الآية: ]وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي[ [فصلت: 50].
أذقناه: الضمير يعود للمنعم عليه.
ضراء: يقصد به الشدة والبلاء والمرض.
وزمن المرض والبلاء: قبل أن يذيقهم الله رحمة من عنده، أي أصابه أولاً الضراء والبلاء، ثم بعد ذلك ذاق رحمة الله.
لي: اللام للاستحقاق. أي: أنا مستحقه.
وذكر المصنف رحمه الله ثلاث تفاسير لهذه الآية.
التفسير الأول: تفسير ابن عباس؛ وإن كان المصنف بدأ بتفسير مجاهد، وتقديم تفسير الصحابي أولى.
قال ابن عباس: "يريد من عندي": بمعنى أن هذه النعمة بجهدي وبكدَّي.
وتفسير مجاهد: هذا بعملي: معناه: بسبب عملي.
وأنا محقوق به: أي جدير به.
وعلى كلا القولين لم ينسب النعمة إلى الله، وإنما نسبها إلى جهده وعمله.
تفسير قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب، بمعنى قولك: إنه بجهدي.