أخي الغالي والحبيب : همال بردي ..
بداية :أخي الفاضل إنني لا أتواصل مع ردودك على كثرة مشاغلي إلا من تقديري ومودتي ومحبتي لك في الله .. ورغبتي في أن نصل إلى الحق الذي هو الغاية والهدف المنشود .. ولاشك أنك وغيرك من القراء تشاركوني هذا الشعور ..:)
أما قولك :" إنني أحكر من يلحقون بحكم ( أهل الفترة ) في العصر الحاضر على الهنود الحمر أو من كان يعيش في جزر أو أماكن نائية " فأنا لم أقصر حكم ( أهل الفترة ) على هؤلاء فقط بل قلت : "ويدخل في حكم أهل الفترة حديثا الذي يعيشون في أماكن نائية أو جزر معزولة لم تبلغهم دعوة الإسلام كالهنود الحمر أو من كان يعيش في مجمتع الغرب أو في مجتمع من المجتمعات ولم تبلغه دعوة الإسلام ولم يسمع بالرسول صلى الله عليه وسلم " فأرجو أن ترجع إلى ردي السابق وتقرأه جيدا .. فأنا لا أخالفك في أن من وصله الإسلام مشوها ولم يجد مصدرا يرشده ويوضح له الإسلام أنه يدخل في حكم ( أهل الفترة ) لأن وصول الإسلام إليه مشوها لا يعد ( إبلاغا له ) ..
إذن بارك الله فيك .. اختلاف وجهات النظر هي في قضيتين .. حتى لايتشعب الحوار ويخرج عن مساره:
الأولى : هل قامت على المجتمعات غير المسلمة الحجة ؟ هذه القضية لا يمكن لأحد أن يقطع فيها ، وإنما يمكن لنا أن نقول إن ثورة وسائل الاتصال في هذا العصر سدت الفجوات بين الشعوب بل جعلت العالم كالقرية الصغيرة الواحدة ، لايحدث أمر في جهة من العالم إلا وقد انتشر خبره في العالم كله .. أضف إلى ذلك أن المجتمعات الغربية تعشق المعرفة وهي أكثر قراءة وإطلاعا من الشعوب العربية والإسلامية.. فكل هذه المعطيات تحتم علينا أن نقول إن الذي لايعرف الإسلام في تلك المجتمعات قليل بل قد يكون نادرا وهذ القليل أو النادر إما أنه سمع عن الإسلام على غير حقيقته لكنه لم يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة التي تثيرها في نفسه فطرته التي فطره الله عليها المتمثلة في قوله تعالى : " :{ واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين} الأعراف 172.. فهذا الصنف غير مبالي .. وإما أن يكون لم يبلغه الإسلام أو وصله ولكن مشوها ولايستطيع أن يتعرف على الإسلام كأن يكون عجوزا أو أصما أو لم يجد مصدرا يبين ويوضح له الإسلام .. فهذا الصنف هم الذين يدخلون في حكم أهل الفترة ..
القضية الثانية : وهي الأساس في هذا النقاش .. هل النعم والأمطار والجنات في الدول غير المسلمة ( استدراج من الله عز وجل) ؟.. وهل والقحط والجفاف في بلاد المسلمين ( ابتلاء ) من الله عز وجل لعباده ليصبروا ويحتسبوا و ليعودوا إليه ويستغفروه ؟
هنا نترك سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله يوضح لنا هذه القضية :
استشكال حول نزول المطر على بعض الأقطار أكثر من الأخرى
كثيرا ما نسمع أن عدم نزول المطر من السماء سببه معاصي العباد، فإذا كان كذلك فهل الذين في الهند وغيرهم، الذين تأتيهم السيول باستمرار، يعبدون الله أكثر مما نحن نعبده، أو أن المسألة دوران فلك.. نرجو توضيح ذلك، حيث بذلك يتحدث الناس؟
على كل مسلم أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وتكفل بأرزاقهم، سواء كانوا كفاراً أو مسلمين، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا[1]، وقال جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[2] وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ[3] فهو سبحانه خلق الخلق من جن وإنس وكفار ومسلمين، وتكفل بأرزاقهم، فهو ينزل الأمطار، ويجري الأنهار في البلاد وغيرها، ويرزق هؤلاء وهؤلاء.
لكنه سبحانه يؤدب عباده المسلمين إذا فعلوا ما يخالف شرعه وعصوا أمره، فيعاقبهم إذا شاء لينتهوا وليحذروا أسباب غضبه، فيمنع سبحانه القطر، كما منع ذلك جل وعلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصلح الناس، وعهده أصلح العهود، وصحابته أصلح العباد بعد الأنبياء، ومع هذا ابتلوا بالقحط والجدب، حتى طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغيث لهم، فقالوا: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فاستغاث لهم في خطبة الجمعة، ورفع يديه، وقال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) فأنزل الله المطر، وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم، أنشأ الله سبحانه سحابة، ثم اتسعت فأمطرت فخرج الناس تهمهم نفوسهم من شدة المطر، فلم يزل المطر حتى جاءت الجمعة الأخرى، فجاءوا إليه وقالوا: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكه عنا، فضحك عليه الصلاة والسلام، من ضعف بني آدم، فرفع يديه وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) قال أنس رضي الله عنه، الراوي لهذا الحديث: (فتمزق السحاب في الحال، وصارت المدينة في مثل الجوبة).
فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أصيبوا بالجدب واستغاثوا، وهم خير الناس، تعليما من الله سبحانه وتعالى لهم، وتوجيها لهم ولغيرهم إلى الضراعة إليه وسؤاله عز وجل من فضله والتوبة إليه من تقصيرهم وذنوبهم؛ لأن تنبيههم بالجدب ونحوه من المصائب توجيه لهم إلى أسباب النجاة، وليضرعوا إليه، وليعلموا أنه هو الرزاق الفعال لما يريد. فإذا لم يتوبوا، فقد يعاقبهم الله سبحانه بالجدب والقحط وتسلط الأعداء أو غير ذلك من المصائب. حتى ينتبهوا ويرجعوا إلى الله، ويتوبوا إليه، كما قال عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[4]، وقال في قصة أحد لما أصابهم ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح لبعضهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ[5]، وفي يوم بدر كان النصر للمسلمين والهزيمة للكفار، وأسر منهم سبعون وقتل سبعون، وفي يوم أحد جرى على المسلمين مصائب بأسباب نفوسهم.
لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الرماة أن يلزموا الثغر الذي خلف المسلمين، وكانوا خمسين، أمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال لهم: ((لا تبرحوا مكانكم ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير))، سواء نصرنا أم لم ننتصر، لا تبرحوا مكانكم. فلما نصر الله المسلمين، وانهزم الكفار ظن الرماة أنها الفيصلة، وأن الأمر انتهى وما بقي إلا جمع الغنائم، فانصرفوا من مكانهم، فأمرهم أميرهم أن يبقوا، وذكرهم بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فامتنعوا عليه، وقالوا: إن الأمر انتهى والكفار انهزموا. فلما فعلوا ذلك جاءت خيل الكفار من خلف المسلمين، ودخلوا من الثغر الذي أهملوه، وصارت المصيبة على المسلمين بأسبابهم.
والمقصود أن المسلمين قد يبتلون بأمور فيها تأديب وتمحيص لهم، وتكفير لذنوبهم وفيها مصالح كثيرة لهم، منها: أن ينتبهوا، وليعلموا أن النصر بيد الله، وأن كونهم عبدوا الله وحده، وكونهم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكفي، بل لا بد من العمل بطاعة الله، والقيام بأمره سبحانه، والصبر على جهاد أعدائه، ولهذا نبههم بقوله سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[6]، فإذا كان الرسول وأصحابه تصيبهم عقوبات الذنوب، ويبتلون كما يبتلى غيرهم، فكيف بغيرهم؟
أما أولئك الكفرة فقد فرغ منهم عدو الله الشيطان، وقد أطاعوه وتابعوه في دول كثيرة من العالم، فإذا أجرى الله عليهم النعم، وأدر عليهم الرزق، وجاءتهم الأمطار، فهو استدراج لهم، والعاقبة وخيمة كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[7]، وقوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[8] الآية.
وقد يعجل الله لهم العقوبات في الدنيا، كما نزلت بهم في الحروب العظمى بسبب الكفر والذنوب، وكما يعاقبون بأنواع العقوبات الأخرى، كالأوبئة والأمراض العامة وغيرها لعلهم يرجعون.
فالله سبحانه قد يملي ولا يهمل لحكمة بالغة، كما قال جل وعلا: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ[9]، وقد قال سبحانه وتعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[10] فقد يملي الله سبحانه للكفرة، ويتابع عليهم النعم من الأمطار وجري الأنهار وحصول الثمار وغير ذلك من النعم، ثم يأخذهم إذا شاء أخذ عزيز مقتدر، كما أنه سبحانه قد يملي للمسلمين مع معاصيهم الكثيرة، ثم يعاقبهم بما يشاء كما تقدم تأديبا لهم، وتنبيها.
فالواجب على المسلمين أن يأخذوا حذرهم، وأن لا يغتروا بإملاء الله وإنظاره لهم ولغيرهم، مع الإقامة على المعاصي، وأن يبادروا بالتوبة النصوح قبل حلول العقوبة.. نسأل الله السلامة والعافية من أسباب غضبه وأليم عقابه.
[1] سورة هود الآية 6.
[2] سورة الذاريات الآيات 56-58.
[3] سورة العنكبوت الآية 60.
[4] سورة الشورى الآية 30.
[5]- سورة آل عمران من الآية 165.
[6] سورة آل عمران الآية 165.
[7] سورة الأنعام الآية 44.
[8] سورة إبراهيم الآية 42.
[9] سورة البقرة الآية 144.
[10] سورة الأعراف الآيتان 182-183
المصدر:مجموع فتاوى و رسائل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - المجلد الخامس.
ختاما : بعد توضيح سماحته رحمه الله الشافي ، وبعد عرض كل منا وجهة نظره ، فإني أرى أن الاستمرار في النقاش حول هذه القضية قد يدخل بنا إلى الجدال المذموم المنهي عنه ، ولذا أرى أن نتوقف عن النقاش حول هذه القضية ولكل منا أن يرى وجهة نظره التي يقتنع بها ..
ولايفوتني في الختام أن أشكر مشرفنا الغالي همال بردي على سعة صدره ودماثة خلقه ..:) كما أدعو الله عز وجل أن يجزيه عني خيرا على مناقشته التي جعلتني أبحث واستفيد بعض الفوائد .. وتقبل تحيات محبكم ..