ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».
مرفوعًا: الرفع هنا حقيقة.
ليس منا: هذا ضمن أحاديث الوعيد ومرّ بنا منهج السلف في التعامل مع نصوص الوعيد، فيمرونها كما جاءت ولا يفسرونها إلا إذا دعت الحاجة لذلك.
وتفسيرها هنا: ليس منا أي: من المؤمنين الكاملين. فالنفي لكمال الإيمان الواجب لا لأصله؛ لأن الإجماع منعقد على أن من فعل المعاصي والكبائر لا يخرج من الدين، ولكن يخرج من كمال الإيمان الواجب.
ضرب الخدود وشق الجيوب: هذه أمثلة على عدم صبر الجوارح، وتدل باللازم على عدم صبر القلب لحديث: «إن في القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله».
إلا أنه يعفى عن اليسير من الكلام، وهذا هو الجمع المناسب مع قول فاطمة «يا أبتاه إلى جبريل ننعاه» وهذا إذا كان القول صدقًا.
دعا بدعوى الجاهلية: كالدعوة للقومية والعصبية والتجمع للأحلاف على أساس المصالح.
وعن أنس أن رسول الله r قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له بالعقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة».
فيه مسائل:
إذا أراد الله: فيه إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى.
بعبده: هل يقصد بالإضافة العموم أم هي إضافة تشريف؟
المقصود هنا والله أعلم عبده المؤمن المتذلل له بالطاعة، فتكون الإضافة إضافة تشريف؛ بدليل أن المؤمن هو موضع الخير وهو الذي يحب الله له الخير، أما الكافر فإن الله لا يحب الكافرين.
الخير: هل المراد به هنا تكفير الذنوب أم رفع الدرجات والثواب؟
الذي يبدو لي: الأول أن المقصود بالخير هو تكفير الذنوب.
المسألة الثانية: هل المصائب كفارات أم رافعة للدرجات؟
فيه تفصيل:
فقد تكون مكفرة فقط أو قد تكون رافعة. من جهة كونه يصبر فقط فهي مكفرة؛ بشرط ألا يتضمن ترك واجب أو فعل محرم.
أما من جهة ما تورثه المصيبة من رضى واستغفار وشكر فهي رافعة للدرجات. فيكون الخلاصة: أن المصائب مع الصبر مكفرة بشروطها، ومع الرضى والشكر رافعة. وكونها مكفرة يدل عليه حديث أنس، وكونها رافعة يدل عليه آخر الحديث، وكونها مكفرة للسيئات هو مضمون كلام ابن تيمية وابن القيم، ولذا فإن الخير هنا يراد به التكفير.
وقوله في الحديث «عجل له العقوبة».
اللام في «له»: للاستحقاق، وتدل أيضًا على الاختصاص؛ لأن المجرم يُؤاخذ بذنبه. وهل غيره يأتيه شيء من هذه العقوبة؟
الحديث قال: «له»: فأخرج غيره لقوله تعالى: ]وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[ [الأنعام: 16] ]وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى[ [النجم: 39] لكن الغير إن تسبب أو رضي أو أعان فهذا يعتبر كسبًا منه.
قوله: «العقوبة»: بمعنى البلايا والمصائب من مرض أو فقر فيصبر فيحصل له الخير.
وهل يدخل في ذلك العقوبات المعنوية، كالنفاق، والإعراض عن الخير، وضيق الصدر قال تعالى: ]فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ[ [التوبة: 77]؟ الجواب: نعم.
ومن قوله: «العقوبة»: أيضًا هو الذي جعلنا نقول إن المصائب كفارات في هذا الحديث؛ لأنه بدل أن يعاقب في الآخرة عوقب في الدنيا، فكان عقابها مكفرًا، وحجابًا، وبدلاً.
ولم يبين في الحديث مصدر العقوبة هل هي البلايا التي من صنع الله؟ أو هي التي من فعل الناس إما بقصد أو بغير قصد؟
قد يكون الجميع، وقد مرّ بنا هذا التقسيم.
قوله: «في الدنيا»: هذا موضع العقوبة ولا يلزم من التعجيل أن يكون بعد الذنوب،
ولكنه في الدنيا من الذنوب إلى الموت، وقد يكون التشديد في الموت من الكفارات.
قوله: «وإذا أراد الله بعبده شرًا».
عبده: هنا مثل عبده الأول، لكنه المسرف على نفسه بالمعاصي.
الشر: وهنا سؤال: هل معنى ذلك أن الله يريد الشر؟ وكيف نوفق بينه وبين قوله r « والشر ليس إليك»؟
هنا سمى الإمساك عن العقوبة شرًا باعتبار العبد، وإلا باعتبار فعل الله فعدل.
أمسك عنه بذنبه: الممسوك عنه هي البلايا والعقوبة.
بذنبه: الباء سببية، بمعنى أنه ما عاقبه بسبب ذنوبه ولكن أمسك عنه العقوبة وقد تكون بمعنى الاستحقاق أي مع أنه مستحق بذنبه.
ونسب الذنوب إلى العبد: لأنها كسبه.
وهذه الذنوب هي ما دون المكفرات.
حتى: لانتهاء الغاية أي: إلى غاية أن يوافي به يوم القيامة.
وروى الحديث الترمذي وحسنه، والحاكم والطبراني.
مناسبة الحديث: وجوب الصبر على المصائب وأنها خير للعبد.
وهل كل مصيبة علامة خير؟
لا. إلا إن وُفّق إلى الصبر فهي علامة خير، وإن لم يصبر فهي علامة شر.
وقال النبي r: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» حسنه الترمذي.
ظاهر صنيع المؤلف أنه حديث آخر مع أنهما حديث واحد. رواهما الترمذي عن أنس بسند واحد.
ومعلوم عند أهل العلم أنه يجوز تجزئة الحديث.
«إن عظم الجزاء»:
فإذا نظرت إلى هذه الكلمة «الجزاء» وآخر الحديث تبين لك أن في هذا الحديث دلالة على أن المصائب رافعة للدرجات.
«مع عظم البلاء»:
المعية هنا ليست معية مقترنة، وإنما الجزاء يأتي بعد البلاء؛ لأنه مترتب عليه. وهل الجزاء مع كل بلاء مطلقًا؟
لا. ليس كل بلاء معه جزاء إلا بشرطه، وشرطه هنا: أقله اثنان وأكثره ثلاثة: إما الصبر والرضى، أو الصبر والرضى والشكر.
وقوله: «مع عظم البلاء»: أي أن عظم البلاء معه عظم جزاء. هل هو باعتبار الكمية أو الكيفية؟ قد يكون هذا وقد يكون هذا.
«وإن الله تعالى إذا أحب قومًا»: فيه إثبات أن الله يحب. والمعطلة لا يثبتون المحبة لله تعالى.
وقوله «قومًا»: هنا نكرة والمقصود بقوم: أي المؤمنين.
والدليل: أن الله لا يحب الكافرين، وهؤلاء القوم محبوبون.
قوله «ابتلاهم»: أي أصابهم ببلايا ومصائب ورزقهم ما يثيبهم عليها ويثبتهم. ويدل هذا الحديث بالمفهوم أن قلة الجزاء مع قلة البلاء.
قوله «فمن رضي»:
هنا ذكر الرضى فهو يدل على الصبر وزيادة.
وجاء في حديث محمود بن لبيد وقال المنذري: رواته ثقات.
قال: «فمن صبر ... الحديث» ولا يقيد هذا عموم الحديث فإن فيه زيادة الرضى.
وقوله: «فله الرضى» هذا جزاء رضائه أن يرضى الله عنه، فيترتب على ذلك كثرة الثواب.
«ومن سخط» أي: كره، وما تبع الكراهة من أعمال الجوارح.
«فله السخط» فهذا جزاءً وفاقًا، فلما سخط سخط الله عليه، فيترتب على ذلك العقوبة.
مناسبة هذا الحديث: فضل الرضى وأنه يزيد في الدرجات، ويزيد في التوحيد.