]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[ [النساء: 60] الآيات. وقوله: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[ [البقرة: 11]، وقوله: ]وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا[ [الأعراف: 56] الآية. وقوله: ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[ [المائدة: 50] الآية.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله r قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.
وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة؛ فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة- وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود -لعلمه أنهم يأخذون الرشوة- فاتفقا أن يأتيا كاهنًا في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ[ الآية.
وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي r، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله r: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.
قال الشارح:
المسألة الأولى: موضوع هذا الباب.
هو الحكم والتحاكم إلى غير ما أنزل الله.
المسألة الثانية: علاقة هذا الباب بكتاب التوحيد.
لأن التحاكم والحكم ينافي توحيد الربوبية.
المسألة الثالثة: شرح الترجمة:
ألم: الاستفهام إنكاري.
تر: بمعنى تعلم.
إلى الذين يزعمون: أخبر عن إيمانهم بأنه زعم.
بما أنزل إليك: أي من الكتاب، ومثله السنة فحكمها مثل حكم الكتاب في وجوب الاتباع.
يريدون أن يتحاكموا: بمعنى يرغبون ويميلون، وهذه الكلمة لها دلالة عظيمة في فهم الآية، فمن أحب أو رغب في التحاكم إلى الطاغوت فهو ممن يزعم أنه آمن.
الطاغوت: صيغة مبالغة من الطغيان، وعرفه ابن القيم «كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع».
المسألة الرابعة: حكم التحاكم أو الحكم بغير ما أنزل الله؟
ينقسم إلى قسمين:
الأول: الشرك الأكبر وهو ستة أنواع:
1- أن يجحد حكم الله.
2- أن يحكم أو يتحاكم بغير ما أنزل الله على أنه أحسن من حكم الله.
3- أن يعتقد أنه مثل حكم الله.
4- أن يعتقد أنه يجوز التحاكم أو الحكم بغير ما أنزل الله.
5- وضع محاكم قانونية، أو وضع تشريعات تُخالف الشرع، وهذا خاص بالحاكم.
6- التحاكم إلى الأعراف والسلوم عند التنازع والخصومات، كما يفعل بعض أهل القبائل من التحاكم إلى رؤساء عشائرهم، وهذا خاص بالتحاكم.
القسم الثاني: كفر أصغر فهو كفر دون كفر، وهو أن يتحاكم أو يحكم في قضية معينة بما يُخالف الشرع من غير قانون أو تشريع أو عرف مع أنه يعرف أنه مخطئ وآثم.
وقولنا: القضية المعينة خرج بها لو كان هذا ديدنه، أو يغلب عليه الحكم بغير ما أنزل الله ولو كان اعتقاده سليمًا وخرج القضايا العامة التي تشمل الناس أو أكثرهم.
مثال ذلك: لو أن قاضيًا عرض عليه سارق فحكم بأن السرقة حرام وعاقب السارق بالقطع، وهذا هو الغالب على أفعاله، لكن قد يعرض عليه سارق معين فنظرًا للصداقة
التي بينهما أو لمنفعة ولنحو ذلك يترك الحكم عليه بالقطع، ويلتمس له المعاذير كي يفلت من العقوبة، فيكون حكمه بأن السرقة حرام وحكمه بالقطع لأغلب السراق، فهذا يدل على أن اعتقاده سليم، وحكمه على هذا السارق المعين بعدم القطع يعتبر كفرًا دون كفر بشرط أن يعترف أنه مخطئ ولم يحكم بناء على قانون أو نظام أو تعميم ونحوه.
وقد أمروا أن يكفروا به: أمروا: مبني للمجهول، والآمر هو: الله ورسوله.
يكفروا به: أي الطاغوت.
والكفر بالطاغوت مرَّ علينا في تفسير التوحيد. أي قلبًا ولسانًا وجوارحًا.
ويريد الشيطان: أل للعموم، شيطان الإنس والجن.
المسألة الخامسة: متى لا يكفر من تحاكم أو حكم بغير ما أنزل الله؟
إذا اجتمعت فيه شروط:
1- أن يكون اعتقاده سليمًا، يرى وجوب التحاكم ويشعر أنه عاصٍ.
2- أن يكون في المسائل القليلة، أما إن كان ديدنه التحاكم أو الحكم بغير الشرعية فهذا يكفر.
3- أن لا يكون عن قانون أو عرف أو تعميم.
4- أن يكون في القضية المعينة وليس عامًا.
والإنسان إذا توفر فيه شيئًان: إرادة جازمة، وقدرة كاملة، تحقق الفعل بإذن الله، وإن لم يتحقق الفعل فلضعف الإرادة أو وجود العجز.
المسألة السادسة: إذا أكره على التحاكم على القوانين فهل يكفر؟
الجواب: لا يكفر بشرطين:
1- أن يعتقد بطلان ما تحاكم إليه، ويكون قلبه مطمئنًا بالإيمان.
2- أن يكون الإكراه ملجئًا.
وقوله تعالى: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[ [البقرة: 11].
الإفساد في الأرض ينقسم إلى قسمين:
1- إفساد حسي، كهدم البيوت والتخريب.
2- إفساد معنوني، ويكون بالمعاصي أو الكفر، ويكون بالحكم أو التحاكم إلى غير ما أنزل الله.
مناسبة الآية: أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر الفساد في الأرض.
وقوله تعالى: ]وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا[ [الأعراف: 56].
هذه الآية بنفس معنى الآية التي قبلها.
وقوله تعالى: ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[ [المائدة: 50].
الهمزة: هنا للتوبيخ.
الجاهلية: نسبة حال، مأخوذة من الجهل والجهالة.
والجاهلية: هي ما خالف الشرع باعتبار الأحكام، وهي مأخوذة من الجهالة، وهي المخالفة مع العلم أو عدم العلم وهو الجهل.
عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
الحكم على الحديث: المصنف نقل تصحيح النووي.
والقول الثاني: أنه ضعيف؛ وممن ضعّف الحديث ابن رجب في جامع العلوم؛ إلا أن ضعفه غير شديد، ويعضده قوله تعالى: ]فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ...[ [النساء: 65].
لا يؤمن: لا: نافية.
يؤمن: الأصل في النفي أن يُحمل على نفي الوجود، فإن تعذر فيحمل على نفي الوجود الشرعي وهو الصحة، فإن تعذر فيُحمل على نفي الكمال الواجب، وهنا يُحمل على نفي الكمال الواجب.
لا يؤمن: إيمانًا كاملاً كما قال الشارح ابن قاسم، ويدل عليه حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».
والزاني ليس هواه في هذه المسألة تبعًا لما جاء به الرسول r، كقوله تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[ [النساء: 48].
أما إن كان كارهًا لما جاء به الرسول؛ فهذا يكفر، ولذا من نواقض الإسلام بغض ما جاء به الرسول.