النعم من الله تعالى.
وإضافتها إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف.
ثم ينكرونها: إما إنكار جحود، أو إنكار تناسي، وهذا كله حاصل.
ثم إن المصنف رحمه الله ذكر ثلاثة تفاسير للآية – بعضها من التابعين، وبعضها من غيرهم.
بدأ بتفسير مجاهد للآية، وتفسير التابعي ليس في قوة تفسير الصحابي إذ الغالب على تفاسير الصحابة أن لها حكم الرفع، وتفسير مجاهد هنا من باب التفسير بالمثال.
قال مجاهد ما معناه: هنا المصنف ذكر كلام مجاهد بالمعنى، ورواية الكلام بالمعنى يجوز لمن يعرف الألفاظ؛ بشرط ألا يعود على المعنى بالنقص أو التحريف.
وذكر الشارح لفظ كلام مجاهد أنه قال: «هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، يعرف هذا كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وعلى ذلك فإن قول القائل: هذا مالي ورثني إياه أبي؛ فإنه من نكران النعمة.
لكن في أي الأبواب: باب الخبر أم باب الشكر والثناء؟
أما في باب الخبر فيجوز، ومنه قوله r: «يا فاطمة سليني من مالي ما شئت ...» وقال تعالى: ]وَرِثَهُ أَبَوَاهُ[ [النساء: 11]، فلو سألك شخص من أين لك هذا المال؟ فقلت: ورثته من أبي، فهذا جائز.
أما في باب الشكر والثناء فلا بد أن يقول هذا من فضل الله ثم ورثته من أبي، وعليه يُحمل قول مجاهد.
وقوله قول الرجل: هذا لا يخرج قول المرأة فالباب واحد.
مناسبة كلام مجاهد: أن من نسب النعم إلى غير الله فقط مثنيًا شاكرًا، فإنه مما يُنافي كمال التوحيد الواجب.
التفسير الثاني: قول عون بن عبد الله، وهو من التابعين.
والتابعي: من رأى الصحابي ومات على ذلك.
وهم ثلاثة طبقات:
1- من رأى الكثير من الصحابة وهذا من كبارهم.
2- من رأى النفر والنفرين والثلاثة وهذا من صغارهم.
3- ما بين ذلك وهذا من أوساطهم.
«لولا فلان لم يكن كذا»:
هذا نوع من أنواع نكران النعم، وهو الخاص بلفظ "لولا"، وفي هذه الصيغة أضاف النعمة إلى غير الله، وهذا أيضًا قاله على وجه الثناء والشكر، وأما هذا اللفظ فإنه من الألفاظ الشركية، وهو من باب الشرك الأصغر؛ لأنه لم يوحد الله بالنعم.
لولا فلان: يشترط أن يكون فلان المقصود سببًا شرعيًا أو قدريًا.
التفسير الثالث: تفسير ابن قتيبة:
يقولون: الضمير يعود إلى الكفار، كما قال الشارح ابن قاسم، ويقصدون بذلك النعم من الرزق وغيره سواءً كان في باب الخبر إن سُئِلوا، أو كان في باب الإنشاء.
بشفاعة: الباء سببية.
آلهتنا: جمع إله أي: معبوداتنا.
وكلامهم هذا هو شرك مطلقًا، ولا يُقال هنا خبر أو إنشاء؛ لأن الشفاعة ليست سببًا شرعيًا ولا قدريًا. فهنا جمعوا بين أمرين:
1- الشرك الأكبر.
2- نسبة النعم إلى غير أسبابها، والنسبة هنا نسبة جحود.
قال أبو العباس: هذه كنيته، ولم يتزوج وإنما هذا من باب الكنية.
وتسميته أبي العباس أولى عندي من قول "شيخ الإسلام"؛ لأن الأخير فيه عموم، ويأتينا مزيد بحث في باب «التسمي بقاضي القضاة».
الشاهد: هو تعليق أبي العباس على الحديث حيث قال: «وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به».
وهذا ما يسمى بنكران التناسي ونكران الإضافة، فمن أضاف النعم إلى غير الله فقط مثنيًا شاكرًا فهذا لا يجوز.
وقد بين أبو العباس حكمه وأنه من الشرك.
لكن من أي الشرك؟ المسألة فيها تفصيل:
إن أضاف النعم إلى المخلوق واعتقد بأنه فاعل لها ومُوجِد، فهذا من الشرك الأكبر في توحيد الربوبية.
وأن أضافها إلى المخلوق على أنها سبب والله الفاعل، فهذا من الشرك الأصغر إن كانت سببًا، وإن لم تكن سببًا لا من جهة القدر ولا الشرع، فهذا من الأصغر لكنه جمع بين شرك أصغر مضاعف فهو زيادة في الشرك.
ثم ضرب أبو العباس أمثلة لمسألة إضافة النعم إلى غير الله:
المثال الأول: «كانت الريح طيبة فحصلت لنا السلامة» فنسب حصول السلامة إلى الريح ثناءً وشكرًا وبيان منزلة.
المثال الثاني: «كان الملاح حاذقًا فنجونا من الغرق» فنسب النجاة إلى حذاقة الملاح.
ومن الأمثلة الحديثة: «لولا أن قائد السيارة أو الطائرة منتبهًا لحصل لنا حادث».
ومنه: «لولا جدُّهُ ومثابرته في التجارة ما حصل الربح».
أو: «كانت المذاكرة قوية فحصل النجاح».
أو: «كان الجيش متدربًا فحصل النصر». ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير.
قوله: "ألسنة": أفادنا على أن المسألة ليس فيها اعتقاد في القلب، وإنما قالها على وجه العادة وجريان اللسان.
كثير: هذا من دقة الألفاظ، فإن التعبير بكثير أولى من التعبير بالعموم.
وتجد أن بعض التجار ونحوهم إذا وصل إلى مرحلة من الغنى كبيرة، وسئُل عن قصة حياته التجارية أو كتب مذكرات عن حياته التجارية يذكر جهده ومثابرته وحرصه حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولا ينسب ذلك لفضل الله، وهذا من الشرك في النعم؛ لأنه تناسى فضل الله.
]فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[ [البقرة: 22].
قال ابن عباس في الآية: الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانًا هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله r قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا.
وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي r قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان» رواه أبو داود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
قال الشارح:
هذا الباب شبيه جدًا بالباب الذي قبله، إلا أن فيه زيادات مما يتعلق بالحلف بغير الله.
الثاني: مما يتعلق بالتسوية في المشيئة.
الثالث: مما يتعلق بالتسوية في صيغة الاستعاذة.
بالإضافة إلى كلمة: "لولا" إذا قيلت في الثناء.
والجامع لهذه الأمور الأربعة أنها شرك في الألفاظ.
المسألة الأولى: هذا الباب والذي قبله يتعلق بتوحيد الربوبية، وأنه يجب إفراد الله عز وجل بالنعم والمشيئة والتعظيم.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
لا: ناهية، والقاعدة أن النهي يقتضي التحريم.
أندادًا: جمع ند. أي: لا تجعلوا له نظيرًا أو مثيلاً.
وأنتم: الواو حالية، والجملة بعدها في محل نصب حال.
قال ابن عباس في الآية -أي في معنى الآية- وهذا يُسمى تفسير صحابي، وتفسير الصحابي له حكم الرفع إذا لم يكن معروفًا بالأخذ عن الإسرائيليات.
المسألة الثالثة: وصف هذا الشرك بأنه خفي، وسبب خفائه لعسرة التخلص منه. ولكن الأقرب أن يُقال إنه خفي؛ لأن الانتباه له والتحرز منه عسير لا التخلص منه.
الشرك الخفي هل هو قسيم الشرك الأكبر والأصغر أو أنه قسم؟
المسألة خلافية:
القول الأول: أنه قسيم، وعلى ذلك فيقسمون الشرك إلى ثلاثة أقسام أكبر، وأصغر، وخفي، وهذا اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
القول الثاني: أنه قسم، وعلى ذلك فالشرك قسمان: أصغر، وأكبر، فالشرك الأكبر قسمان أيضًا: ظاهر وخفي، والأصغر قسمان أيضًا: ظاهر وخفي، وهذا أقرب أنه قسم لا قسيم. وعلى كل حال لا مشاحة في الاصطلاح.
قد يقول قائل: كيف الشرك الأكبر يكون خفيًا؟
نقول: يعتبر خفيًا من باب المكان، فشرك القلوب يعتبر خفيًا.
أخفى من دبيب النمل: اختار النمل لشدة خفائه.
صفاة سوداء: أي الحجر الأملس.
في ظلمة الليل: هذا أشد خفاءً في كون النمل لا يُسمع ولا يُرى.
وضرب ابن عباس أربعة أمثلة للشرك الخفي.
المثال الأول: يتعلق بالحلف، وضرب له مثلاً بقوله: «والله وحياتك يا فلانة»([1]) والحلف بغير الله من جعل الند لله، ويأتي تفصيل الحلف في الحديث الثاني.
المثال الثاني: لولا كليبة هذا، وهذا من نسبة الشيء إلى سببه الشرعي أو القدري، ولكن مع تناسي المنعم إذا قاله شاكرًا مثنيًا.
ووجه الشرك في هذا اللفظ: لأنه نسب السلامة من اللصوص إلى انتباه الكليبة. «ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص» نسب السلامة من اللصوص إلى انتباه البط.
وإنما الواجب أن يقول: لولا الله ثم كليبة هذا، ولولا الله ثم البط لأتى اللصوص، فذكُر كلمة "ثم" هنا واجب.
مسألة: هل في كل شيء يقال: لولا الله ثم كذا؟
هذا فيه تفصيل:
1- أما في باب المصائب فلا يقال: «لولا الله ثم السرعة لما انقلبنا».
2- في باب المعايب فلا يقال: «لولا الله ثم تخاذلنا ما انهزمنا» والدليل قوله r: «والشر ليس إليك».
3- ما يتنزه الله عنه لا يقال فيها «لولا الله ثم كذا» فيما يتنزه الله عنه.
4- في باب الإخبار فإنه لا يلزم، كما جاء في الحديث: «لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».
5- باب الثناء والشكر فهذا يجب.
المثال الثالث: وقول الرجل لصاحبه: «ما شاء الله وشئت» وهذا من الشرك؛ لأنه ساوى مع الله في المشيئة، ويأتي باب مستقل لهذه المسألة.
المثال الرابع: «لولا الله وفلان».
وهذا من الشرك، لأنه جعل المخلوق مساويًا للخالق في السببية، وهو غير كلمة «لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص» لأن هذه فيها نسبة مع التناسي.
وقوله «لولا الله وفلان» فيها مساواة في السببية.
لا تجعل فيها فلانًا: لا: ناهية تدل على أن هذا اللفظ محرم.
لا تجعل فيها فلانًا: هذا ليس في كل الحالات، وإنما في الحالة التي فيها الواو، أما لو جعل فيها فلانًا مع ثم فهذا يجوز.
هذا كله به شرك: هذا حكم ابن عباس على الألفاظ السابقة.
([1]) في بعض النسخ يا فلان.