]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا[ [البقرة: 165].
وقوله: ]قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ[ إلى قول تعالى: ]أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[ [التوبة: 24] الآية.
عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله r: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» وفي رواية: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ...» إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ومن أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا. رواه ابن جرير، وقال ابن عباس في قوله تعالى: ]وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ[ [البقرة: 166] قال: المودة.
قال الشارح:
المسألة الأولى: اسم هذا الباب؟
«باب ما جاء في المحبة»
المسألة الثانية:
المصنف ابتداءً من هذا الباب وستة أبواب بعده كلها أبواب تتعلق بأعمال القلوب، ابتدأها بالمحبة ثم الخوف والتوكل وهكذا.
المسألة الثالثة:
في هذا الباب تحدث المصنف عن محبة الله، ومحبة رسوله، والمحبة الشركية،
والمحبة في الله، والبغض في الله.
المسألة الرابعة: تعريف المحبة:
وقع خلاف كبير ومتنوع وكثير في تعريف المحبة، وأشار إلى التعريف ابن القيم في «روضة المحبين».
ولكن الاختلاف يرجع إلى أن كل واحد عرّف المحبة بآثارها، وأما آثارها فكثيرة. والأصل أن الشيء يُعرف بحده وحقيقته لا بآثاره.
وأما تعريفها فهو: وصف قائم بالقلب يؤدي إلى السرور وغيره من المقتضيات كالطاعة واللذة.
المسألة الخامسة: أنواع المحبة ومتى تكون شركًا؟
النوع الأول: المحبة الشركية، وهي المحبة المستلزمة للذل والطاعة والخضوع، والمؤدية لفعل الكفر أو الشرك.
مثال ذلك: أن تدفعك محبة شخص إلى طاعته في الكفر الأكبر والشرك الأكبر، ودليله الآية الأولى، أو تدفعك محبته إلى عبادته، كالذبح له والسجود له والاستغاثة به، وهذا النوع شرك أكبر.
النوع الثاني: من باب الكفر، وهي محبة الكفار لدينهم، أو محبة دينهم. فهذا كفر. قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ [المائدة: 51] وقال r: «المرء مع من أحب». وهذه المحبة تعتبر من باب الكفر لا من باب الشرك.
النوع الثالث: محبة جائزة في الأصل.
وهي أنواع:
الأول: محبة طبيعية، كمحبة المال والزوجة، قال r: «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب».
الثاني: محبة إجلال وتقدير، كمحبة الولد لوالده، ومحبة الطالب لمعلمه.
الثالث: محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، ومحبة المسكين والمريض.
الرابع: محبة أُلفٍ وأُنس: أي للألفة والمؤانسة، كمحبة المشتركين في صنعة، ومحبة الذين من بلد واحد في الغربة.
وهذه المحاب جائزة في الأصل لقوله تعالى: ]قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ.. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ[ [التوبة: 24]. وجه الدلالة: أنهم ذُموا في الآية؛ لأنهم أحبوها أكثر من محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله؛ لا لأنهم أحبوها. وهذه المحبة تجري فيها الأحكام الخمسة، والأصل فيها أنها مباحة.
النوع الرابع: محبة محرمة.
وضابطها: أن تدفعك المحبة الجائزة إلى فعل محرم أو ترك واجب، كشراء التلفاز محبة للأولاد والزوجة، وحلق اللحية محبة للزوجة مثلاً. هذا في فعل المحرم، وفي ترك الواجب: كأن تترك صلاة الجماعة محبة للمال، أو تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة للمنصب، وهذه كثيرة الشيوع بين المسلمين إلا من رحم الله. وهل هو شرك أم لا؟
فيه خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أنها محرمة.
القول الثاني: أنها شرك أصغر، ودليل كونها شركًا: حديث أبي هريرة في الصحيح قال r: «تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة ... إلى أن قال: إن أُعطي رضي...» فسماه عبدًا.
فالأقرب عندي هو أنها شرك أصغر.
ودليل التحريم هو الآية الثانية.
الفرق بين هذه المحبة والمحبة الشركية التي ذُكرت في النوع الأول:
كلاهما يشترك في أن الدافع في ارتكاب ما حرم الله في القسمين هو المحبة.
أما الافتراق: فإن المحبة الأولى تدفعه إلى فعل الكفريات، وهذه تدفعه إلى فعل المحرمات وترك الواجبات التي لا يكفر من فعلها أو تركها.
المسألة السادسة: لو دفعته المحبة إلى فعل المكروهات وترك المستحبات؟
هذه ليست من القسم الأول ولا من القسم الأخير، وإنما تأخذ حكم ما دفعتك إليه، فتكون مكروهة بحسب ما ترتب عليها.
المسألة السابعة: محبة المعاصي هل هي من باب المحرم فقط أم من باب الشرك؟
مثاله: من أحب الزنى مثلاً أو الخمر.
الجواب: هذا يعتبر من القسم المحرم لا من باب الشرك الأصغر، وإلا للزم أن تكون المعاصي التي هي من الكبائر من الشرك الأصغر، وهذا لم يقل به أحد، وإنما المعاصي منها ما هو كبائر ومنها ما هو صغائر.
وأيضًا فمحبة المعاصي مثل فعلها بالجوارح، فمحبة الزنى مثل أن تزني، وهذا إذا همّ وعزم.
والفرق بينها وبين الشرك الأصغر: أن محبة الشرك الأصغر هي أن يحب شيئًا على شيء كحب الولد جعله يفعل المحرم. ففي الشرك الأصغر أطراف ثلاثة: مُحب ومُحَب ومعصية، أما هذا فليس فيه أطراف أو شيء أحب من شيء، إنما فيه مُحَّب ومعصية.
الآيات:
قوله تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ..[ [البقرة: 165].
المسألة الأولى:
من: تبعيضية.
والناس: للعهد بمعنى: بعض الناس.
من يتخذ: من: موصولية بمعنى الذي.
المسألة الثانية: أندادًا.
جمع ند، وهو الشبيه والنظير.
المسألة الثالثة:]يحبونهم[ الضمير يعود إلى الأنداد.
كحب الله: الكاف للتشبيه أي: كحبهم لله، وهذا اختيار ابن تيمية وهو أحد الأقوال في المسألة.
بمعنى أن الكفار يحبون الأنداد محبة مساوية لمحبة الله. والتشبيه في الكاف من حيث النوعية كالقوة، ومن حيث الكمية كالكثرة.
وهنا أثبت لهم محبة الله.
مناسبة الآية: تدل على أن من أحب أحدًا مثل محبة الله فقد اتخذه ندًا ووقع في الشرك الأكبر. وهذا مقيد بمن دفعته محبته إلى فعل الكفريات أو الشركيات.
وقوله تعالى: ]قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ.. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ[ [التوبة: 24].
المسألة الأولى: سبب نزول الآية.
نزلت في المسلمين الذين كانوا في مكة، لما أمروا بالهجرة تعلق بعضهم بالأهل والولد والمال فلم يُهاجروا.
وسبب النزول هنا يعتبر كالمثال، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية: قل: هذه للخطاب: أي قل يا محمد ولمن يصح له الخطاب. وذكر في الآية ثمانية أمور محبوبة: الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة، والأموال، والتجارة، والبلاد، والمساكن.
أحب إليكم: أفعل تفضيل، ففيه مفاضلة بين طرفين بين هذه الثمانية، وبين الله ورسوله.
ولاحظ أنهم ما عُوتبوا على أصل محبتهم لهذه الأشياء الثمانية، ولكن عُوتبوا على تفضيل هذه المحاب على محبة الله ورسوله.
مسألة: متى تكون هذه المحاب محرمة؟
إذا تُرك من أجلها الواجب أو فُعل من أجلها المحرم، أما إن فُعل من أجلها الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر، فهذه من القسم الأول.
مسألة: محبة الزوجة إذا كانت نصرانية أو الأخ إذا كان كافرًا؟
أما إذا كانت الزوجة نصرانية فأصل المسألة يُنازع فيه، ولكن لو كانت مثلاً من أهل
الكتاب فأحبها، فهل هذه المحبة من القسم الطبيعي؟
أما أصل المسألة هو التزويج من أهل الكتاب، فهذه تجوز من حيث الأصل لقوله تعالى: ]وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ[ [المائدة: 5] أما في هذا العصر ففي التزوج من أهل الكتاب مفاسد من مسئولية الأولاد ... فنرجح جانب المنع.
أما من ناحية المحبة: فهذا إن كان يحبها من أجل أن يسكن إليها ويستمتع بها مع بغضه لدينها، فهذه المحبة الطبيعية، وهو أحد قولي العلماء في قوله تعالى: ]إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ[ [القصص: 56] وكذلك الأخ مثل الزوجة. وأما من أحبها لدينها، فهذا يعتبر كفرًا مخرجًا من الملة.
مسألة: هل هذا خاص بهذه الثمانية؟ لا. وإنما يُقاس عليها غيرها.
مسألة: هذه الثمان ومثلها المحبة الجائزة بالنية تتحول إلى محبة مستحبة، فالزوجة إذا أحبها لأنها زوجته، فهذه محبة طبيعية، وإذا أحبها لدينها فهي محبة دينية، والعسل والدباء إذا أحبه لأنه لذيذ فهذه محبة طبيعية، وإن أحبه لأن الرسول يحبه فهذه محبة دينية.
قوله: ]فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ[ [التوبة: 24].
هذه تسمى آية وعيد، وقد سبق ذكر مذهب السلف في آيات الوعيد.
وعن أنس أن رسول الله r قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» أخرجاه.
لا: نافية، والأصل في النفي: نفي الوجود بقسميه، الوجود الحسي كـ «لا رجل في الدار»، والوجود الشرعي كـ «لا إله إلا الله».
وإن كان المنفي موجودًا حسًا فيكون نفيًا للصحة، كقوله r: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف».
فإن كان الشيء صحيحًا شرعًا فيكون النفي للكمال.
والكمال نوعان: كمال واجب، وكمال مستحب. مثاله: «لا يؤمن أحدكم ...» الحديث أعلاه.
والمقصود بالآية ]لَا يُؤْمِنُ[ [يونس: 40] الإيمان الكامل الواجب؛ لأن الأدلة دلت على أن الإنسان مع المعاصي صحيح الإيمان ولكن إيمانه غير كامل. ولأنه قد دلت أدلة أخرى على أن المنفي في الحديث هو الكمال مثل ما أخرجه أحمد «لا يجد أحدكم صريح الإيمان» وعند ابن حبان «لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان».
وهل يدخل فيه الإسلام؟ فنقول: «ولا يسلم إسلامًا كاملاً»؟ نعم. لأن هناك قاعدة أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
أحدكم: الكاف لخطاب المؤمنين.
حتى: لانتهاء الغاية.
أحب: أفعل تفضيل أي: حتى يكون الرسول r أحب إليه مما ذُكر، ومحبة الرسول هي طاعته، وهذا تفسير بالمقتضى، وهذا من باب التسهيل؛ وإلا فمحبة الرسول وصف قائم بالبدن يقتضي طاعة الرسول واتباعه.
ولده: هنا بمعنى اسم المفعول أي: المولود، وهذا هو المعنى في الكتاب والسنة، وأما العرف فيطلق الولد على الذكر.
ووالده والناس: الواو في "والناس" عاطفة، والعطف هنا من باب عطف العام على الخاص، وأفرد الولد والوالد لأنه الغالب في المحبة.
أجمعين: تأكيد للعموم في "والناس".
مناسبة هذا الحديث: تحريم تقديم محبة الولد ونحوه على محبة الرسول r. وهذا يعتبر من الشرك الأصغر إن قدمه في الواجبات والمنهيات، ومن الأكبر إن قدمه في الكفريات.
ولهما عنه قال: قال رسول الله r «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقده الله منه كما يكره أن يقذف في النار».
المسألة الأولى: المصنف هنا قال: ولهما وقبله قال: أخرجاه.
هل هناك فرق بينهما؟
أما أن المؤلف صرح له باصطلاح فهذا لا أذكر فيه شيئًا. والمسألة تحتاج إلى مزيد بحث.
عنه: أي أنس.
ثلاث: العدد يقصد به التقريب لا الحصر.
كن: بمعنى وجدن، ومحل كونها في القلب، ولها آثار على الجوارح، وأما محل الحلاوة فهو القلب.
بهن: الباء سببية. فهذه الثلاث الأمور المذكورة من أسباب كمال الإيمان.
حلاوة: حلاوة الشيء طعمه، وحلاوة الإيمان طعمه، وهو أمر زائد على أصل الإيمان، والحلاوة المبنية على الإيمان إذ لا بد أن يكون أصل الإيمان موجودًا. هذا سبب.
والسبب الثاني: أنه لو لم توجد هذه الأمور الثلاثة لبقي مؤمنا، فدل على أن المقصود كمال الإيمان.
حلاوة الإيمان: الإضافة بتقدير اللام.
وقوله الإيمان: والإسلام أيضًا.
ويقصد ما يجده الإنسان في قلبه من الفرح والسرور والانشراح، فالحلاوة معنوية. الأولى من هذه الأمور: تقديم محبة الله ورسوله على ما سواهما.
ورسوله: يقصد به أوامره ونواهيه.
سواهما: هل يقصد به كل شيء ما عدا الله ورسوله؟ لا. وإنما المقصود ما تُباح محبته وهي المحبة الطبيعية.
وقلنا ذلك من قوله "أحب"؛ لأن الأمور الطبيعية تُحب، أما المحرمة فلا تُحب، وموضع التقديم: عند التعارض.
الثاني: أن يُحب المرء لا يحبه إلا الله:
المرء: أل فيه للعهد: أي من قام به موجب المحبة وهو المؤمن.
لا يُحبه إلا الله: لا يُحبه من أجل الدنيا أو غير ذلك؛ بل تكون محبة خالصة لله عز وجل.
مراتب محبة الأشخاص:
المرتبة الأولى: المحبة الخالصة، بأن لا يُحبه إلا لله، وهذا هو المقصود في الحديث؛ لأن فيه نفيًا وإثباتًا، والنفي والإثبات من أقوى أساليب الحصر.