وقولنا: أو المرئيات: كأن يريد سفرًا أو عملاً ما فيرى رجلاً أعمى أو أعزر أو يرى طير الغراب، فيعدل ويرجع عن سفره أو عمله، أو يرى الظباء فينشط.
وقولنا: المعلومات: هي ما ليست مسموعة ولا مرئية، كالتشاؤم بالشهور، أو في بعض الأزمنة والأيام، أو في بعض الأرقام المعدودة، وكذلك الأحلام المزعجة الغير منتظمة. وأما الرؤية الصالحة فليست من التطير، هذا بالنسبة لتحليل التعريف.
وهناك مسائل واقعية هي من باب التطير:
1- قولهم: "خير يا طير" للشيء الجديد، وهذه من ألفاظ الجاهلية أنكرها بعض السلف لما سمعها وهجر عليها.
2- قولهم للمسافر: "على الطائر المأمون" فهذه من لوثة التطير.
3- ذلك قولهم: "ما طار طيره" وهذه تحتاج إلى مزيد بحث.
4- قولهم: "الطير الأخضر ترى يا زينة، والطير الأسود ترى يا شينة"، وهذا من التشاؤم بالألوان.
5- وكذلك إذا شعر بحكة في يده اليمنى، فهي علامة خير.
6- وإذا شعر بحكة في يده اليسرى، فهي علامة شر.
7- وكذلك إذا طنت أذنه، استدل على أنها علامة شر.
8- وكذلك التشاؤم في بلد أو بيت، كأن يسكنه ويموت له ميت فيه فيتشاءم منه، فهذا تطير؛ لأنه لا علاقة بين الموت والسكن.
9- كذلك تشاؤم الآباء إذا سموا أبناءهم بأسمائهم، ويقول: إنها من علامة قرب موته.
10- وكذلك حركة العين أو رفّة العين، فيقولون في اليمين: خير، وفي اليسرى: شر.
11- ومن أمثلة ذلك: بعض أهل التجارات يبيع في أول النهار بأي سعر ولا يرد أول زبون، فإذا رده فيسمى هذا اليوم شؤم.
12- ومن أمثلة ذلك أيضًا: إذا رأى نعلاً على نعله، فإنه يتفاءل بالسفر، وإذا وقع روث طائر على ثوبه، فإنه يتشاءم في السفر.
13- ومن ذلك ما يسمى بفتح الآيّ، فهم يفتحون المصحف ويتفاءلون في أول آية، فإذا فتحوا ووجدوا آية رحمة أو جنة تفاءلوا وسافروا، وإذا رأوا آية نار أو عذاب فإنهم
يتشاءمون.
مسألة: الرحيل من أماكن الخطر هل هو تطير؟ وكذلك القدوم على بلد الخطر هل هو من باب التشاؤم.
الجواب: لا؛ بل إنه من باب اتقاء الأخطار وفعل الأسباب؛ إلا إذا كان البلد مصابًا بالطاعون، فإنه جاء عن الصحابة أنهم «لا يخرجون منها ولا يقدمون إليها»، وأما غير ذلك فليس من باب التطير، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث: «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد» وقال r: «لا يورد ممرض على مصح».
وقول الله تعالى: ]أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[ [الأعراف: 113].
ألا: حرف تنبيه. وأول الآية ]فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ[ [الأعراف: 131].
طائرهم: بمعنى التطير ومعناه: ما قضي وقُدر عليهم، وهذا تفسير ابن عباس وهو تفسير الصحابي.
وسمي ما قُضي وقُدر عليهم بلفظة طائر؛ لأنها حالة سيئة، فيكون المقدور والمقضي هو الحالة السيئة التي كانوا عليها.
عند الله: بمعنى من الله.
وهو من الله قدرًا وخلقًا ومشيئة، وهو منهم سببًا وإرادة.
فيكون سبب حالتهم السيئة هو معاصيهم وكفرهم، وهذه تعتبر عقوبة قدرية من الله.
والشاهد من الآية: أن هؤلاء الكفار تطيروا بموسى والمؤمنين معه؛ لأن من عادة الجاهلية التطير بالأشخاص والذوات.
وهو مثل ما يقول العلمانيون في هذا العصر عندما يكون هناك رخاء يقولون: هذا بسبب تخطيطنا وتنظيمنا. وإذا حصلت نكسات أو تدهور في الحالة المعيشية قالوا: هذا بسبب الأصوليين.
مسألة: حكم التطير والتشاؤم بالأشخاص؟
أما حكمه ففيه تفصيل.
1- فأما التشاؤم بأهل الخير، فهذه عادة جاهلية وعلمانية، وهي محرمة.
2- التشاؤم بالذوات مطلقًا مع عدم كونها سببًا معقولاً للشر، فهذا محرم.
3- التشاؤم بالأشخاص إذا كانوا سببًا معقولاً للشر، فهذا جائز, وهذا معنى ما جاء في الحديث «الشؤم في ثلاث، المرأة، والدابة، والدار»، وفي رواية: «والفرس».
وهذه الأمور الثلاثة كانت مشئومة؛ لأنها كانت سببًا ومفتاحًا للشر.
مثاله: أن تكون زوجة الرجل سليطة اللسان مبذرة، ويأتيه منها شر زائد غير معتاد ومستمر، فإنها مشئومة، والعلاج في ذلك تركها.
وشؤم الدار: أن يكون جيرانها أهل سوء، فيأتيه منهم الشر والمشاكل، ويأتي الأولاد أيضًا، فهذه يجوز التشاؤم بها، والحل تركها والانتقال عنها.
والدابة: قد تأكل ماله بأن يكثر عطلها، فهذه مشئومة، والحل تركها.
وشرط هذه الأمور أن تكون المشاكل والشرور التي جاءت منها زائدة غير معتادة وكثيرة أيضًا، أما الشر القليل فلا يخلو منه إنسان، ولذا قال ابن منظور في لسان العرب: والشؤم ضد اليمن، ورجل مشئوم إذا جر الشر" اهـ.
وكما نقول: رجل مبارك أو امرأة مباركة إذا كانت تعين على الخير وتفعله، فكذلك امرأة مشئومة إذا كانت بعكس ذلك.
وهل هذا الأمر خاص بالثلاثة؟
الجواب: لا. فكل من سبب شرورًا كثيرة غير معتادة؛ فإنه يكون مشئوما سواء كان أخًا أو صديقًا أو بلدًا أو غير ذلك بالشروط السابقة.
وهل يجوز أن نطلق على هذه الأشياء أنها مشئومة؟
نعم يجوز.
ما الفرق بينها وبين التطير وتشاؤم الجاهلية؟
هناك فروق:
1- أن هذه الأمور الثلاثة سبب قدري للشر، وأما تشاؤم الجاهلية فهو بأشياء ليست
بأسباب، كأن يمر الطير من جهة الشمال فيتشاءمون، فليس هناك علاقة بين الطير والشر.
2- أن التشاؤم بالمرأة وما عطف عليها وقعت بعد تجربة وبعد حوادث، أما تشاؤم الجاهلية المسموع أو المرئي فهو من أول وهلة.
3- أن التشاؤم بالمرأة وما عطف عليها حقيقي، وأما تشاؤم الجاهلية فأوهام وتخيلات.
أما العمل مع الذوات إذا كانت أسبابًا للشر، فيجوز عمل يتعلق بالقلب، وعمل يتعلق بالجو راح.
فأما ما يتعلق بالقلب فهو كراهية هذا الشيء، وأما ما يتعلق بالجوارح فهو الترك والانتقال.
الآية الثانية: قوله تعالى: ]قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ[ [يس: 19].
طائركم: أي ما قدر وقضي عليكم.
معكم: بسببكم، فما حصل لكم من شرور ومن حالة سيئة فهو سبب معاصيكم.
ومن الآيتين نستنتج أن عادة الجاهلية هي التشاؤم بالأشخاص الذين ليسوا سببًا للشر.
حديث أبي هريرة أن رسول الله r قال: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر» أخرجاه.
زاد مسلم «ولا نوء، ولا غول».
لا: نافية للجنس تحتاج إلى اسم وخبر.
عدوى: اسمها، وخبرها محذوف تقديره: هذا يترتب على معرفة دلالة النفي، هل هو للتأثير أو للوجود؟
والتقدير هنا: لا عدوى مؤثرة بذاتها، فالمنفي: التأثير الذاتي والسببية المستقلة.
أما كونها سببًا إذا شاء الله فهذا صحيح، وأما أنها سبب إذا شاءت هي فهذا ليس بصحيح.
وليس النفي للحقيقة.
ولذا جاء عند البخاري معلقًا مرفوعًا «فر من المجذوم فرارك من الأسد» وجاء في
الصحيح «نهى أن يورد ممرض على مصح» وما ذلك إلا أنها تؤثر؛ ولكن إذا شاء الله.
وأما عادة الجاهلية فكانوا يعتقدون أن العدوى تنتقل بذاتها، فنفي هذا الاعتقاد.
وهنا إشكال وهو: أليس باعتبار الواقع إذا جاء سليم وصاحب مريضًا انتقل المرض وهي العدوى؟
الجواب: ليس دائمًا، بل أحيانًا ينتقل وأحيانًا لا ينتقل. فلو كانت مؤثرة تأثير استقلال لكانت دائمًا ناقلة للمرض.
مسألة: هل يجب الانتقال من أماكن الخطر؟
بحثنا أن الفرار من أماكن الخطر ليس من التطير لقوله r: «فر من المجذوم فرارك من الأسد».
لكن هل يجب الخروج من الأماكن الخطرة؟
نقول: الخروج جائز ومباح، ويجوز لمن وثق بنفسه وقوي توكله يجوز له البقاء، ويجوز الإقدام على الأماكن الخطرة. لا سيما إذا كان هناك مصلحة عامة أو خاصة، ولذا جاء عند أحمد وأبي داود أن النبي r أخذ بيد المجذوم وأكل معه وقال: «باسم الله ثقة وتوكلاً على الله» وخالد بن الوليد شرب السم، وكان في ذلك مصلحة عامة في دخول بعض الناس في الإسلام.
ومشى سعد بن أبي وقاص على البحر.
إلا أنه يستثنى الطاعون، فلا يقدم على بلدة هو فيها ؛ لفعل الصحابة في طاعون عمواس.
وهل هو خاص بالطاعون أم أنه يقاس عليه أسباب الشهادة إذا انعقدت، كما ورد في المجاهد يقف في الصف للقتال، كما قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ...[ وهل هو يشمل الأمراض والأوبئة العامة الخطرة قياسا على الطاعون؟
الظاهر أنه ليس خاصًا بالطاعون بل هو يشمل الطاعون والأمراض والأوبئة العامة. أما أسباب الشهادة فالغرق والحرق والمبطون وأمثال ذلك غير الطاعون، والأوبئة العامة فهذا لا يدخل بل يفعل أسباب السلامة من الغرق والحرق والمبطون وأمثاله.
ولا طيرة: لا: نافية للجنس، وتقدير خبرها: لا طيرة حقيقة، فهو نفي للحقيقة والوجود، فمن باب أولى أن يكون نفيًا للتأثير، فالطير ليس مؤثرًا ولا حقيقة له.
ولا هامة: الميم جاء تخفيفها وتشديدها. هامة وهامة.
والهامة: نوع من الطير، إذا قتل الشخص مظلومًا وقفت على قبره وصاحت حتى يؤخذ بثأره، وهذا هو اعتقاد الجاهلية، وقيل: إنها علامة على الموت، فإذا وقفت على دار شخص وصاحت علم أنه ميت فاستعد.
وهل النفي هنا للمعنى الأول أو الثاني؟
قال النووي: النفي لكلا المعنيين.
وهل النفي للحقيقة أو التأثير؟
أما الحقيقة فموجودة، فهي طير موجود، ولكن النفي للتأثير، والهامة نوع من الطير، فهو هنا من باب عطف الخاص على العام.
ولا صفر: له ثلاث معان:
الأول: حية في البطن أو داء في البطن يصيب الإنسان، فيجعله أصفر اللون من شدة المرض، وهذا هو المشهور.
الثاني: شهر صفر المعروف، وكانوا يعتقدون أنه شهر الآفات والشرور، فيتشاءمون به.
الثالث: أنه بمعنى التأخير والنسيء، فكانوا يؤخرون المحرم إلى الصفر، وأقرب المعاني الأول ثم الثاني.
أما في النوع الأول وهو الداء، فيحمل النفي على التأثير المستقل، فيكون بمعنى العدوى.
وأما على المعنى الثاني وهو تشاؤمهم بشهر صفر، فيكون نفيًا لصحة هذا الاعتقاد، وتأثير هذا الشهر بالشر.
ويقاس على شهر صفر التشاؤم ببقية الأشهر والأيام، كأن يكون هناك أشهر معلومة أو أيامًا وقع فيها الشر، وكانوا يتشاءمون أيضًا بالنكاح في شهر شوال.
وهناك قول ثان: أن "لا" في الحديث ناهية، فيكون المعنى: لا تتطيروا ولا تعتقدوا أن العدوى تنتقل بذاتها، قال ابن القيم: وهي تحتمل النهي وتحتمل النفي.
زاد مسلم: «ولا نوء ولا غول».
ولا نوء: لا: نافية للجنس، والمنفي: التأثير ليس الحقيقة.
النوء: يقصد به النجم، وبعض العرب يتشاءمون في بعض النجوم، فيقولون: هذا نجم نحس، وهذا نجم شقاء. وبعض النجوم يتفاءلون بها ويقولون: نجم خير.
فالحديث هنا نفي التأثير عن النجم بالخير أو الشر.
"ولا غول":
الغول: قال أبو السعادات: الغول هي: جنس من الشياطين، فهي متشيطنة الجن، تظهر على الناس بشكل أشخاص فتضلهم عن الطريق، إما أنها تسير بطريق مخالف فيتبعونها، أو أنها تقول لهم: من هنا الطريق فيصدقونها، فهي تضلهم بالقول أو الفعل، فنفى الرسول r تأثيرها: وقيل إن الغول هي: زعم كانت تزعمه العرب، فيكون على القول الأخير نفي للحقيقة.
وأما إذا قلنا إنها نفي للتأثير، فهي لا تؤثر إذا جاء الإنسان بالأسباب كقراءة الأذكار، وكذلك التعوذ منها.
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله r: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل» قالوا:وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة.
ويعجبني: أي يسرني، من السرور.
الفأل: ذكر أبو السعادات: أنه لفظ مشترك لما يسوء أو لما يسر، فيكون من الأضداد.
وظاهر الحديث أن الفأل من الطيرة، وهذا على ما يعتقده العرب، فإن مذهبهم أن الفأل والطيرة واحد. فأثبت الرسول r الفأل واستحسنه، وأبطل الطيرة.
فيكون الفأل لغة: يطلق على الخير والشر على ما يسر وما يسوء، وشرعًا: هو الكلمة الطيبة. ومعنى الكلمة الطيبة أي: الكلمات الطيبة، أو الأسماء الطيبة.
فمحبة الكلمات الطيبة والنشاط بها، ومحبة الأسماء الطيبة والنشاط بها من الفأل، فكان رسول الله r يُحب سماع كلمة الفوز والنجاح والفلاح والسلام وما يشتق منها من أسماء، كالفائز والفالح والناجح.
كما أنه يكره الكلمات الخبيثة والأسماء الخبيثة وتنفر نفسه، كما أن الإنسان يكره
الرائحة الخبيثة وينفر منها.
مسألة: جاء في بعض الأحاديث كما عند أبي داود أن الرسول r إذا أرسل رسولاً وكان اسمه حسنًا فرح، وإذا كان اسمه قبيحًا رُؤي كراهية ذلك في وجهه. وروى مالك أن الرسول r قال مرة: «من يحلب لنا؟ فقام رجل. فقال: ما اسمك؟ قال: حرب. قال: اجلس».
والفروق:
1- أن الفأل شيء طيب وتحبه النفوس الطيبة، فهو عبارة عن أسماء وكلمات طيبة.
2- أنه عندما يسمع يا سالم لا يعتقد أنه سيسلم، وإذا سمع يا خاسر لا يعتقد أنه سيخسر، ولكن ينشط بكلمة سالم ويتقوى، وكلمة خاسر لا ينظر إليها ولا تؤثر عليه، فيكون الفأل مجرد تقوية ونشاط، وليس معه اعتقاد بالسلامة والخسران.
ولذا لو سافر معه شخص اسمه سالم لا يعتقد السلامة وإنما يفرح به.
وإذا حلب له رجل اسمه قبيح فلا يعتقد الشر في هذا اللبن.
مسألة: الرسول r غيّر بعض الأسماء القبيحة لا لأن لها أثرًا في المسمى، ولا لأن لها أثرًا في المقارن والمصاحب لها؛ وإنما لأنها تنفر منها الفطر السليمة. وقوله: "الكلمة الطيبة" لها مفهوم وهو أن الكلمة السيئة أو الاسم السيئ لا يسره.
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله r فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
هذا الحديث صححه المصنف، والجمهور على أنه ضعيف، وسبب الضعف أن فيه انقطاعًا.
قال المصنف: عقبة بن عامر، والصواب: عروة بن عامر قاله صاحب تيسير العزيز الحميد.
وله من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه أبو داود والترمذي، وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
هذا الحديث رواه الترمذي وصححه، وهو كما قال. وهذا الحديث يبين حكم الطيرة.
شرك: هنا نكرة، فهل هو شرك أكبر أو أصغر؟
هذا حسب الاعتقاد، فمن اعتقد أنها تفعل بذاتها أو علامة على المستقبل فهذا شرك أكبر، ومن اعتقد أنه سبب فهو شرك أصغر.
وما منا إلا ...: هذا مدرج من كلام ابن مسعود.
والإدراج: إدخال الكلام في كلام آخر من غير فاصل، والذي حكم عليه بالإدراج البخاري والترمذي والمنذري.
وما منا إلا: أي إلا وقع في قلبه، وهذا لا يضرك.
ولأحمد من حديث ابن عمر: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك. هذا الحديث مختلف في تصحيحه، فبعضهم ضعفه بسبب ابن لهيعة، وعندهم أن ابن لهيعة ضعيف مطلقًا. وبعضهم صححه لأنه وإن كان فيه ابن لهيعة إلا إن الذي روى عنه ابنُ وهب، وهو أحد العبادلة.
من: عام حتى الكافر.
ردته الطيرة: هذا هو ضابط الشرك في الطيرة؛ أن ترده أو تجعله يمضي باعتقاد.
فقد أشرك: المعتاد من هذه اللفظة أنها في الأكبر فتكون بمعنى الألف واللام: الشرك والكفر.
فإذا كانت للشرك الأكبر، فهذا ردته باعتقاد أنها فاعلة، أو يخبر بها عن الغيب.
حديث الفضل بن العباس: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك».
هذا الحديث ضعفه ابن مفلح في الآداب الشرعية؛ لأن فيه مجهولاً وانقطاعًا، أما من ناحية المعنى فمعناه صحيح.
ما حكم قول القائل: «فأل الله ولا فألك؟»
قال بعض أهل العلم أنها تجوز، أي: أنا متفائل بالخير من الله سبحانه وتعالى.
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث:
-زينة للسماء -ورجومًا للشياطين -وعلامات يهتدى بها.
فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. اهـ.
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله r: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم» رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف التنجيم:
التنجيم: تفعيل مأخوذ من النجم. اصطلاحًا: الجمهور على تعريف التنجيم أنه: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وهذا تعريف أبي العباس ابن تيمية، واختاره كثير من الشراح؛ إلا أن هذا التعريف لا يشمل التنجيم عمومًا، وإنما هو لنوع من أنواع التنجيم، والمطلوب في التعاريف أن تكون عامة.
ولذا فالأقرب في تعريف التنجيم بشكل عام أنه:
الاستدلال بالنجوم على الحوادث الأرضية والأشياء الحسية كالزرع، وقلنا ذلك حتى يدخل علم التسيير في التعريف بالإضافة إلى علم التأثير فشملهما التعريف.
المسألة الثانية: أقسام التنجيم:
ينقسم التنجيم باعتبار موضوعه ومادته إلى قسمين:
1- علم التأثير.
2- علم التسيير.
المسألة الثالثة: أقسام علم التأثير:
المقصود بالتأثير: هو تأثير النجوم على الحوادث، وهو أنواع:
النوع الأول: أن يعتقد أن النجم فاعل ومؤثر أي: أنه يخلق الأحداث، وهذا حكمه:
كفر أكبر بالإجماع.
قال تعالى: ]هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ[ [فاطر: 3] وهل هنا للاستفهام بمعنى النفي أي: لا خالق غيره، فهذا شرك في باب الربوبية.
الثاني: أن يستدل بحركات النجوم طلوعًا وغروبًا واجتماعًا وافتراقًا على الغيب، أي على ما سوف يحدث. مثاله: من ولد في نجم الجوزاء فسيكون سعيدًا، ومن تزوج في برج السنبلة مثلاً سيفشل زواجه، ومن حارب في نجم كذا أو سافر وهكذا، أو سينزل المطر إذا طلع النجم الفلاني وهكذا.
وحكم هذا القسم أنه كفر وشرك أكبر؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب ]قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[ [النمل: 65] وهذا ادعى علم الغيب، وحكمه هنا حكم الكاهن والعراف، وقد مرّ بنا هذا الباب.
النوع الثالث: أن يعتقد أنها سبب والله الفاعل: فيجعلها سببًا للحوادث، فإذا وقعت الحوادث نسب السببية إلى النجم.
والفرق بينه وبين الذي قبله: أن الذي قبله إخبار لما سيحدث في المستقبل، فهو متعلق بالزمن المستقبل، وأما هذا النوع فالحوادث وقعت، ولكن يعلق سببيتها بالنجم.
مثال ذلك: إذا سلم الزرع من الهلاك، فينسب السلامة إلى نجم الثريا مثلاً على أنه هو السبب لسلامتها.
مثال آخر: إذا نزل المطر نسب نزوله إلى خروج النجم الفلاني، أو إذا هبت الريح نسب هبوب الريح إلى طلوع نجم أو غيابه، وأما لو قال: سوف ينزل المطر فهذا من الثاني.
حكم هذا القسم: محرم ومن باب الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه دعوى الإخبار بالغيب إنما هو مجرد نسبة إلى أشياء ليست ذات سببية.
ويشترط في هذا القسم: أن تكون نسبة السببية غير صحيحة لا شرعًا ولا قدرًا، أما لو كانت النسبة صحيحة من جهة الشرع أو القدر فيجوز إن كان إخبارًا.
مثلا ذلك: لو قال إن هذا الزرع اشتد وقوي لسطوع الشمس عليه، فهذا يجوز؛ لأن حرارة الشمس سبب قدري في نمو النبات وقوته، لكن اشترطناه في باب الإخبار كأن
يخبر عن ذلك، أما لو كان في باب الإنشاء أي قاله مدحًا وثناءً فهنا يجب أن يقول: هذا من الله ثم من السبب الحقيقي، لما جاء عن ابن عباس بسند حسن رواه ابن أبي حاتم عنه قال في قوله تعالى: ]فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا[ [البقرة: 22] قال: هو مثل قول القائل: لولا البط في الدار لأتانا اللصوص، فجعله من الشرك الخفي.
المسألة الرابعة: النوع الثاني من علم التنجيم وهو:
علم التسيير: وهو: الاستدلال بسير النجوم على المصالح المباحة.
وهو ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الاستدلال بالنجوم على المصالح الدينية، كالاستدلال بالنجم على القبلة، وعلى ثلث الليل الآخر، وعلى دخول أوقات الصلاة، فهذا حكمه فرض كفاية، ويستحب للمحتاج كمن أراد السفر – أن يتعلمه، وهذا ليس محل نزاع.
النوع الثاني: الاستدلال بالنجوم على المصالح الدنيوية كالاستدلال بالنجوم على الجهات الأربع، وعلى الفصول الزراعية، وعلى فصول السنة إلى غير ذلك من المصالح الدنيوية.
هذا النوع وقع الخلاف بين السلف في تعلمه على قولين:
القول الأول: وهو قول قتادة ومن وافقه أنه يكره تعلمه، ودليل قتادة: من باب سد الذريعة؛ لأن علم التنجيم قد ظهرت بداياته في عصره.
وأول ما انتشر علم التنجيم "المحرم التأثير" في القرن الثالث، وازداد رواجه في القرن الرابع والخامس في دولة بني العباس، فأفتى بالمنع من علم التسيير سدًا للذريعة؛ حتى لا يتوصل به إلى علم التأثير.
القول الثاني: هو قول الإمام أحمد ومن وافقه أنه يجوز، واستدلوا على الجواز بقوله تعالى: ]وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[ [النحل: 16] هذه الآية عامة في الاهتداء أي: يهتدون دنيا ودين، ويدل عليه أيضًا الأصل؛ لأن الأصل الإباحة، ويدل عليه أيضًا المصلحة، فإن فيه مصالح للناس، وكما مر علينا من كلام ابن المسيب «وأما ما ينفع فلم يُنه عنه».
وأقرب الأقوال عندي: أنه يمكن الجمع بين القولين، أنه يجوز تعلم علم التسيير في