المسألة الحادية عشرة: حكم تداوي الممسوس؟
حكمه: هو جزء من الكلام عن حكم التداوي عمومًا، فذهب بعض أهل العلم إلى أن التداوي سنة، وهذا قول الجمهور.
والقول الثاني: إذا كان المرض يؤدي بالإنسان عادة إلى الهلاك، فيجب التداوي لقوله تعالى: ]وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[ [البقرة: 195]، وقوله r: «إن لنفسك عليك حقًا».
والقول الثالث: أنه مباح.
المسألة الثانية عشرة: ما حكم أخذ الأجرة على النشرة الشرعية؟
هذه المسألة سبق ذكرها في باب الرقى والتمائم.
المسألة الثالثة عشرة: ما الفرق بين كون الرجل ممسوسًا أو به عين؟
إذا كان مع القراءة يشعر بارتياح فهذا مصاب العين، وإذا كان يتعب أو يشتد عليه حال القراءة فالغالب أن ممسوس؛ لأن الجن يكرهون القرآن.
وعن جابر أن رسول الله r سُئل عن النشرة فقال «هي من عمل الشيطان» رواه أحمد بسند جيد وأبو داود، وقال: سُئل أحمد عنها؟ فقال: «ابن مسعود يكره هذا كله».
الألف واللام في النشرة: للعهد، ويقصد به نشرة الجاهلية.
وكيفية نشرة الجاهلية؟ هي فك السحر بأسحار مختلفة واستخدامات شيطانية.
وعلى ذلك فالنشرة تنقسم إلى قسمين:
الأول: نشرة جاهلية، وهي التي من عمل الشيطان، ويدل عليها الحديث الأول.
القسم الثاني: نشرة شرعية، وهي التي ذكرها المسيب، وأيده ابن القيم على ذلك.
من عمل الشيطان: من: تبعيضية.
الشيطان: الألف واللام هل هي للجنس أم للعهد؟
هي للعهد، ويقصد بها هنا المسلط من الساحر، وإن كانت في غير هذا الحديث تشمل المؤذي من الجن.
وقولنا: الشيطان: هو من شطن إذا بعد، وقد مر.
والشيطان: اسم لم خبث وتمرد من الجن، وكذلك الإنس، فإن زاد في التمرد سمي ماردًا، فإن زاد في التمرد سمي عفريتًا.
رواه أحمد بإسناد جيد: هذا حكم المصنف، وحسنه الحافظ في "الفتح"، وابن مفلح في "الآداب الشرعية" ورواه أيضًا أبو داود، ورواه الطبراني، والبزار عن أنس:
وقال: أي أبو داود.
أحمد: هو ابن حنبل إمام أهل السنة.
عنها: أي نشرة الجاهلية.
والإمام أحمد قال هذا الكلام لأنه يرى رأي ابن مسعود في المنع منها.
فقال: ابن مسعود يكره ذلك كله:
فيه مسألتان:
1- لم يذكر المصنف هنا الترضي عن الصحابي، وهذا يجوز، ولكن الأفضل الترضي عنهم لفظًا وكتابة.
2- يجوز أن يقول للصحابي «ابن مسعود أو ابن عمر» وليس هذا من سوء الأدب معهم.
يكره: الكراهية عند قدماء السلف بمعنى التحريم على قول لابن القيم، وقيل حسب القرائن.
هذا: أي حل السحر بالسحر الذي هو من عمل الجاهلية.
وللبخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: «رجل به طب أو يُؤخذ عن امرأته أيُحلُّ عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه».
هذا الأثر ذكره البخاري معلقًا مجزومًا به.
والمشهور في المصطلح: أن تعليقات البخاري التي بصيغة الجزم صحيحة، ولكن ليست على شرطه.
عن قتادة: هو قتادة بن دعامة السدوسي، هذا من صغار التابعين أي الطبقة الثالثة منهم.
لابن المسيب: هو سعيد بن المسيب، وهو من الطبقة الأولى وهم كبار التابعين.
رجلٌ به طب: هذا قول التابعي، ويسمى مقطوعًا.
طب: هذا لفظ مشترك بين العلاج والمرض مثل: "القرء" لفظ مشترك بين الطهر والحيض.
والقاعدة: أن الألفاظ المشتركة تجري على معانيها إلا إن تعذر ذلك، ومثله كلمة "طاهر" فإنها لفظ مشترك بين الطاهر من الحدث الأصغر والطاهر من الحدث الأكبر.
ولذا في حديث عمرو بن حزم قول النبي r «لا يمس القرآن إلا طاهر» أي من الحدث الأصغر والأكبر ومن الشرك.
ولكن في كلمة (طب) يتعذر حملها على كل المعاني، فهي هنا يراد بها المريض بالسحر، وسمي المريض بالسحر مطبوبًا من باب التفاؤل، كما يسمى اللديغ سليمًا.
قال أو يُؤخذ: أو حرف عطف، وهذا من باب عطف المترادف.
ويُؤخذ: بتشديد الخاء أي يُحبس عن امرأته، وهذه ما تسمى بعملية الربط يقال: فلان مربوط عن أهله.
كيف تتم عملية الربط بالسحر؟
أولاً: العملية الجنسية لا تتم دون انتصاب الذكر.
ثانيًا: عدم الانتصاب له سبب عضوي، وهذا لا يعنينا هنا، وهذا يُعالج طبيًا، وهو ما يُعرف بالعجز الجنسي، وهذا لا علاقة له بالسحر.
ثالثًا: أن الانتصاب لا يتم إلا بعد إشارة عصبية من الجزء الخاص بأعضاء التناسل في المخ، فإذا أثر أي مؤثر على هذا الجزء فلا ينتصب الذكر، وقد يكون هذا المؤثر غضب أو جوع أو تمركز الجني في هذا الجزء، وهذه هي عملية الربط بالسحر.
وهو: تسلط الجني على أعضاء التناسل في المخ فيفقد قدرته الجنسية أو الرغبة في الجماع، ولكن إذا جاء أهله بردت شهوته.
أيُحل عنه أو يُنشر: ي أيُعاجل معالجةً شرعية في فك هذا السحر؟
قال سعيد: لا بأس: هذه فتوى بالجواز لفك السحر بالأشياء الجائزة.
ودليل الفتوى: هو المصلحة، قال: إنما يريدون الإصلاح.
قد يقول قائل: لماذا حملتم كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة مع أن السؤال عام؟
الجواب لقوله: إنما يريدون به الإصلاح، فأما السحرة فلا يريدون الإصلاح لقوله تعالى: ]مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ[ [يونس: 81].
يُنهى: مبني للمجهول، ويُقصد به الشارع.
وهذا هو القسم الثاني من النشرة: وهو حل المس بالأدوية الجائزة.
مسألة: ما هي طرق علاج الممسوس؟
هناك عدة طرق:
1- طريق رقية القرآن والقراءة على المريض بالكيفيات الخمس التي مرت معنا في باب الرقى، وقد يستمر العلاج والقراءة بالقرآن ستة أشهر، فلا يعجل المسحور.
2- استخراج السحر وإتلافه، فإذا أتلف السحر أو حرقه بطل، كما حدث للنبي r.
لكن كيف يُعرف مكان السحر؟
أمّا عن طريق السحرة والكهنة فلا يجوز، ولكن قد تتهم شخصًا بالسحر وتراه يدور حول أماكن خربة أو بيوتًا مهجورة أو في صناديقه وأثاثه، فيعرف حينئذ، فإذا أحرقت أو قُطعت بطل السحر.
3- بعض النباتات مثل: السدر، فإذا جئت إلى سبع ورقات من السدر ثم دُقَ وبعد ما يُدق يوضع في إناء، ثم يقرأ عليه آيات السحر، فيغتسل بمائه ويتوضأ، والسبب: لأن السدر مكروه عند الجن، ولذا يتضايق الجني ويخرج، وهذا ذكره بعض السلف وأيده الشيخ ابن باز؛ لأنه علاج مجرب.
4- ما يسمى بعود القسط الهندي، وهذا ذكره البخاري في كتاب الطب، وذكره مؤلف كتاب «الطرق الحسان في معالجة أمراض الجان».
وطبيعة هذا الدواء أنه حار، فُيدق ويستنشقه المريض، فإذا استنشقه فمن حرارته يصعد إلى الدماغ مكان تركز الجني، فيتضايق ويخرج.
5- التخويف ببعض الحيوانات، كالتخويف بالذئب، وهذا يستخدمه بعض القراء إذا كان الإنسان مصروعًا، فيأتي بالذئب أو ببعض أجزاء الذئب. أما حمل جلد الذئب لدفع الجن أو العين هذه تميمة لا تجوز وفرق بين هذا وهذا.
وهذه خاصية في الذئب، كما أن الحمار إذا رأى الشيطان نهق.
6- بعض المأكولات كتمر المدينة؛ لأنه جاء في صحيح مسلم «من تصبَح بسبع تمرات من عجو المدينة لم يضره سحر».
7- عن طريق الحجامة في الرقبة أو في الموضع الذي يشعر أن فيه مس، وهذا ذكره ابن القيم في كتاب "الطب النبوي"، ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو في عروق الدم.
8- الضرب، وهذا يستخدمه بعض القراء بأن يضرب الممسوس في أماكن تجمع العروق كالكتف والركبة، ولكن هذا العلاج فيه ضرر بالممسوس ويترك تشويهات في جسمه، فينبغي العدول عنه.
9- وبعض القراء يعرف السحر بسؤال الجني سؤال مخاطبة في الممسوس إذا شد عليه في القراءة وتكلم الجني سأله عن مكان السحر فهذا يجوز لكن ينبغي أن يعرف أن الجن لديهم كذب وخداع فقد يكذبون أو يظلمون أحدًا لأنه هو الذي سحره وليس كذلك، قال تعالى: ]إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا[ فكيف بالجني الظالم. أما بالنسبة للعلاج بالقرآن فتستحب الطرق التالية.
أولاً: يستحسن أن يكون القارئ والمقري عليه متوضئين.
ثانيًا: إذا كان المريض عليه شيء من التمائم فيجب قطعها، وإذا كانت امرأة متبرجة تتحجب، وإذا كان عليه معاصي يُنصح ويتوب عنها.
ثالثًا: يبدأ بالقراءة ومحلها في الصدر أو الوجه أو مع الأذن، هذا إذا كان المرض عامًا، وأما إذا كان في عضو معين فيقرأ على العضو.
يقرأ ما شاء من القرآن لقوله تعالى: ]وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ[ [الإسراء: 82].
إلا أنه يستحب الآيات التالية:
1- الفاتحة. 2- أول البقرة. 3- آية الكرسي.
4- آخر سورة البقرة. 5- أول آل عمران. 6- آخر الحشر.
7- سورة الجن. 8- أول الصافات. 9- المعوذات.
10- قصة موسى مع السحرة. 11- آيات السحر.
فإذا كان الجني ضعيفًا أو سفيهًا ليس له هدف فإنه في الغالب يخرج، وقد يتكلم، وقد يخرج ولا يتكلم.
رابعًا: قد تحدث أشياء مع القراءة تدل على أنه ممسوس، فإذا ظهرت هذه العلامات يواصل القراءة، وقد ينطق الجني وقد لا ينطق.
خامسًا: بعد ما يواصل القراءة يقرأ له في إناء ويُشربه إياه ويوصيه بسماع القرآن، لأنه غالبًا ما يُنهك الجني من هذه الإجراءات، ثم يعود إليك من الغد إلى أن يبرأ.
قال: وروُي عن الحسن أنه قال: «لا يحل السحر إلا ساحر».
رُوي: صيغة تمريض.
لا يحل السحر إلا ساحر: القول هذا فيه عموم يحتاج إلى تقييد؛ لأن السحر يحله غير الساحر بالطرق الشرعية.
قال ابن القيم: «النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل بسحر...».
النُشرة حل السحر على المسحور: هذا تعريف نشرة الجاهلية لا مطلق النشرة.
وهي نوعان:
أ- حل بسحر مثله: وهذا تبين له أنه نوعان:
1- حل السحر بتقرب من الناشر والمنتشر إلى الشيطان، وهذا لا شك أنه شرك أكبر.
2- حل السحر عن طريق الساحر مقابل مال يدفعه إليه، ولكن المسحور لا يعمل شيئًا يتقرب به إلى الشيطان، وإنما التقرب من الساحر فقط، والمسحور لا يعمل شيئًا من الشرك، وهذا هو الذي جاء عن الحنابلة بأنه يجوز من باب الضرورة، بشرط ألا يشرك المسحور بفعل، وهذا قول ضعيف جدًا؛ بل الصحيح الذي لا شك فيه أنه حرام، لكن لا يقال إنه كفر لوجود الخلاف وهذه المسألة سبقت في باب ما جاء في السحر.
العلاجات التي ذكرها ابن القيم للنُشرة هي:
1- الرقية. 2- التعوذات. 3- الأدوية. 4- الدعوات المباحة.
وقول الله تعالى: ]أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[ [الأعراف: 131]. وقوله: ]قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ[ [يس: 19].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول r قال: «لا عدوى، ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر» أخرجاه. زاد مسلم: «ولا نوء، ولا غول».
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة».
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله r فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا([1])، ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك».
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف التطير:
لغة: التطير مصدر من تطير يتطير تطيرًا. والمصدر ما يجيء ثالثًا في تصريف الفعل.
مأخوذ من الطير، وأصله معرفة الخير والشر بدلالة الطير، وهو التشاؤم بالطيور.
شرعًا: التشاؤم بكل مسموع أو مرئي أو معلوم، وهذا تعريف ابن القيم.
وليس كل المسموعات أو المرئيات أو المعلومات، ولكن المكروه منها.
المسألة الثانية:
يُلاحظ هنا أن التعريف الشرعي أوسع من التعريف اللغوي، وهذا خلاف المعتاد، وهذا جاء في التطير والرضاع، فإن الرضاع لغة: مص الثدي، وشرعًا: مص الثدي أو شربه، وكذلك جاء في الإيمان.
المسألة الثالثة: أقسام التطير:
ينقسم التطير إلى أقسام:
القسم الأول: أن يعتقد في الطير ونحوه من كل مسموع أو مرئي أو معلوم أن له تأثيرًا في جلب النفع ودفع الضر، وأنها تفعل بذاتها، وهذا شرك أكبر من باب الربوبية؛ لأنه اعتقد أن هناك خالقًا مع الله، قال تعالى: ]هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ[ [فاطر: 3]، وهذا استفهام بمعنى النفي، وأيضًا شرك في الألوهية؛ لأنه تعلق قلبه بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
القسم الثاني: أن يعتقد أنها سبب للخير أو الشر، والله الفاعل وهذا من الشرك الأصغر، والسبب أنه جعل ما ليس سببًا لا شرعًا ولا قدرًا سببًا.
وهذه أغلب تقسيمات العلماء، وهناك قسم ثالث وهو:
أن يجعلها علامة يخبر بها عن الغيب، وهذا من الشرك الأكبر؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، وادعاء علم الغيب بأي وسيلة يعتبر من الشرك الأكبر. وهذا كما يفعله العائف الذي يزجر الطير، أو ذات الشخص إذا استدل بحركات الطيور على علم الغيب.
المسألة الرابعة: شرح التعريف الشرعي:
أما قولنا: التشاؤم بالمسموعات مثاله: كأن يسمع كلمة يا سالم أو يا ناجح، فيعتقد السلامة والنجاح في سفره وفي تجارته، وهذا بالخير.
وبالشر كأن يسمع إذا أراد أن يُسافر أو يتزوج يا خاسر أو يا كسير، فيتشاءم ويترك السفر والزواج.
([1]) في الحديث حذف يعرف بالقرينة، أي إلا ويقع في نفسه شيء من التأثير بحسب العادة والوراثة، ولكن الله يذهبه من قلب المؤمن لإيمانه بأن حركة الطير لا تأثير لها في سير المقادير. اهـ. من مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ) ص35.